
البعد السياسي: من ترديد الشعارات إلى صناعة القرار
لطالما اكتفت أوروبا بدور "الواعظ الأخلاقي" في أزماتها مع إسرائيل، تندد وتدين لكنها لا تمس جوهر العلاقة الاستراتيجية. إسبانيا كسرت هذه القاعدة، ونقلت موقفها من دائرة الخطاب إلى دائرة الفعل القانوني التنفيذي. هذا التحول يضعها في موقع اصطدام مباشر مع اللوبيات الغربية التي تحرس إسرائيل باعتبارها جزءاً من الأمن الأطلسي.
إسبانيا خارج النسق الأوروبي
لا يمكن فصل القرار الإسباني عن البيئة الداخلية والسياسية الخاصة بمدريد. حكومة بيدرو سانشيز تعتمد على تحالف يساري تقدمي يميل إلى سياسات أكثر جرأة تجاه قضايا الجنوب العالمي. لذلك لم يعد الموقف محصوراً في "حقوق إنسان" مجردة، بل بات مرتبطاً برؤية عالمية تعيد تعريف موقع إسبانيا في النظام الدولي. هنا تبرز معضلة: إسبانيا تحاول التحرر من الجبر السياسي الأوروبي-الأميركي الذي جعل الموقف من إسرائيل ثابتاً لا يقبل التغيير.
التناقض الأوروبي: ازدواجية مكشوفة
إسبانيا، بقرارها، فضحت التناقضات المزمنة في الخطاب الأوروبي. كيف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض عقوبات على روسيا بسبب أوكرانيا، بينما يتواطأ مع إسرائيل في حرب إبادة موثقة بالصوت والصورة؟ مدريد وضعت بروكسل أمام مرآة محرجة: إما الالتزام بمبادئها المعلنة أو الاعتراف بانحيازها البنيوي لإسرائيل.
حدود القوة: هل تستطيع مدريد الصمود؟
رغم جرأة القرار، يبقى السؤال عن قدرة إسبانيا على تحمّل الضغوط. إسرائيل لن تكتفي بالرد الدبلوماسي، بل ستسعى لاستثمار نفوذها في بروكسل وواشنطن لعزل مدريد أو معاقبتها اقتصادياً. كما أن دولاً أوروبية أخرى ستتردد في السير على خطاها خوفاً من الصدام مع الولايات المتحدة. لذا قد يتحول القرار إلى فعل رمزي إذا لم يُترجم إلى حراك أوسع داخل الاتحاد الأوروبي.
مغزى القرار: كسر الوصاية وفتح ثغرة
الأهمية الكبرى لخطوة إسبانيا ليست فقط في تأثيرها المباشر على إسرائيل، بل في قدرتها على كسر "التابو" الغربي. لقد أثبتت مدريد أن المسلّمات التي جُعلت محرّمة لعقود – مثل حظر السلاح أو فرض قيود تجارية – يمكن تحويلها إلى قرارات سيادية. إنها ثغرة أولى في جدار الوصاية السياسية الذي يفرض على أوروبا التماهي مع الموقف الأميركي.
خاتمة
قرار إسبانيا ليس نهاية اللعبة، لكنه بداية خطاب سياسي جديد في الغرب: خطاب يقول إن دعم إسرائيل لم يعد "قدراً محتوماً"، وإن السيادة الوطنية تستطيع أن تتجاوز الجبر الأطلسي. لكن مصير هذا التحول سيعتمد على سؤال أعمق: هل ستبقى مدريد وحيدة في هذا المسار، أم أن شقوق الجدار الأوروبي ستتسع حتى تنهار المنظومة الحامية لإسرائيل من الداخل؟