
انهيار الخطاب الدعائي
لعدة سنوات، روجت حكومات عربية ووسائل إعلام خليجية التطبيع كضمان للحماية الاقتصادية والسياسية، وأنه يعزز موقع الدول العربية في مواجهة "الخطر الإيراني". لكن الغارة على الدوحة قدمت دليلًا عمليًا على هشاشة هذا الوهم. إسرائيل لم تُبادر إلى حماية أي من الدول المطبعة، وفضحت التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، مما يطرح سؤالًا مركزيًا حول جدوى هذه الاتفاقات كأداة للأمن القومي العربي.
هذا الحدث يوضح أن ما يُقدَّم كشراكة استراتيجية ليس بالضرورة حماية حقيقية، وأن التطبيع الاقتصادي والثقافي لا يمنع الهجمات أو الانتهاكات العسكرية. فالمفهوم الذي حاولت اتفاقات أبراهام تسويقه، بأن "التعاون يعادل الأمان"، أصبح اليوم موضوع شك عام على المستوى الشعبي والرأي العام الخليجي.
تداعيات محتملة على سياسات التطبيع
1. تراجع الدعاية الإعلامية
الغارة على الدوحة ستؤدي على الأرجح إلى توقف مؤقت لحملات الترويج للثمار الاقتصادية والثقافية للتطبيع. كما أن الحكومات المطبعة قد تضطر إلى تبني خطاب أكثر تحفظًا، والعودة إلى لغة "السلام العادل" و"حل الدولتين" لتقليل الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني.
2. ضغط شعبي متجدد
الجماهير في دول الخليج، بعد رؤية تأثير القصف على دولة خليجية ذات سيادة، ستصبح أكثر رفضًا للتطبيع. هذا الضغط الشعبي قد يدفع بعض الأنظمة إلى إعادة النظر في مستوى الانفتاح والتقارب مع إسرائيل، خشية فقدان شرعيتها الداخلية.
3. تباين السياسات الخليجية
الإمارات والبحرين، اللتان سبق لهما المضي في مسار التطبيع، قد تتجهان إلى تجميد بعض اللقاءات العلنية مع الجانب الإسرائيلي، بينما قد يواصل التعاون في مجالات غير معلنة. في المقابل، السعودية وقطر ستسعيان إلى إعادة التأكيد على سيادتهما، مستغلتين الحدث لإظهار أن التطبيع لم يكن خيارًا آمنًا، وأن حماية الدولة تتطلب مراجعة شاملة للسياسات الخارجية.

إعادة النظر في استراتيجية "أبراهام"
الغارة الإسرائيلية على الدوحة تضع الدول المطبعة أمام اختبار صعب: هل العلاقة مع إسرائيل تستحق المخاطرة بسمعتها الداخلية والخارجية؟ اتفاقات أبراهام كانت تهدف إلى تقديم التطبيع كخيار استراتيجي وأمني، لكن الواقع أثبت أن إسرائيل قادرة على تجاوز سيادة الدول العربية دون أي رادع، حتى مع وجود شراكات رسمية وقواعد أمريكية على الأراضي الخليجية.
مقارنة تاريخية: كامب ديفيد وأبراهام
التاريخ يقدم درسًا واضحًا: معاهدة كامب ديفيد عام 1978 بين مصر وإسرائيل، رغم تقديمها على أنها ضمان للأمن، لم تمنع إسرائيل من استمرار تجاوزاتها في الأراضي الفلسطينية. اتفاقات أبراهام تواجه اليوم اختبارًا مماثلًا؛ فالغارة على الدوحة تثبت أن سردية "السلام كضمانة" لا تعكس الواقع الميداني، وأن الشراكة الاستراتيجية ليست بالضرورة حماية حقيقية، بل أداة تسيطر بها إسرائيل على مجريات الأحداث وفق مصالحها.
الخلاصة
قصف الدوحة سيجبر الدول العربية على إعادة النظر في خطابها التطبيعي، وجعل "أبراهام" أقل قدرة على الترويج كخيار آمن. التطبيع قد يُبرَّر مستقبلًا كـ"شرّ لا بد منه"، لكن الحقيقة على الأرض تقول إن إسرائيل ليست شريك حماية، بل قوة قادرة على تجاوز سيادة الجوار العربي. هذا الحدث يفتح فصلًا جديدًا في مراجعة سياسات التطبيع العربية، ويعيد النقاش حول الحاجة إلى استراتيجية عربية مستقلة تحمي السيادة والمصالح قبل أي حسابات اقتصادية أو سياسية.