تركيا: بين الغارة على الدوحة وإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط

لا يمكن النظر إلى الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط ـ من حرب غزة إلى الغارة الإسرائيلية على الدوحة ـ بمعزل عن دور تركيا. فأنقرة باتت تتحرك بين ثغرات التوازنات الدولية والإقليمية، محاولة أن ترسم لنفسها موقعًا استراتيجيًا يتيح لها النفوذ والتأثير. الغارة الأخيرة على قطر لم تكن مجرد حادثة عسكرية، بل اختبار حقيقي لدور تركيا كفاعل إقليمي وسط فراغات القوة المتولدة من انكشاف السياسات الأمريكية والإسرائيلية.

سوريا: ورقة الضغط المستمرة

تواصل تركيا تموضعها في الساحة السورية كقوة أمر واقع، لا يملك أي طرف تجاوزها. فهي من جهة تستثمر وجودها العسكري ضد الجماعات الكردية، ومن جهة أخرى تفتح قنوات مع روسيا وإيران. هذا التوازن يمنحها ورقة نفوذ على مسار الأزمة السورية، ويجعلها لاعبًا لا غنى عنه في أي تسوية قادمة.

الخليج: إعادة التموضع وبناء التحالفات

مع انحسار الدور الإيراني إثر الضربات الإسرائيلية، تقترب بعض العواصم الخليجية أكثر من أنقرة. الاستثمارات، صفقات الطاقة، والتعاون الأمني تمنح تركيا قدرة على تثبيت حضورها. وهنا، لا تقدّم أنقرة نفسها كخصم مباشر لإيران فحسب، بل كخيار بديل تبحث عنه دول الخليج في ظل اهتزاز الثقة بواشنطن.

الغارة على الدوحة: اختبار الدور التركي

الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية في 9 سبتمبر 2025 كشف عن تحول خطير: إسرائيل لم تعد تكتفي باستهداف غزة بل تنقل المواجهة إلى عواصم عربية.
تركيا استثمرت الحادثة بسرعة عبر:

  • إدانة علنية قوية، لتظهر بموقع المدافع عن الاستقرار.
  • تعزيز تحالفها مع قطر، الحليف الاقتصادي والسياسي الأبرز.
  • التشهير بالانفلات الإسرائيلي، وربط الحدث بفشل الولايات المتحدة في ضبط حليفتها.

بهذا، نجحت أنقرة في تصوير نفسها كقوة إقليمية مسؤولة، قادرة على ملء الفراغ الذي خلفته واشنطن.

السياسة الخارجية المستقلة: بين الناتو و"الخيار التركي"

رغم عضويتها في الناتو، تمارس تركيا سياسة خارجية متمايزة، لا تتقيد كليًا بإملاءات الغرب. الموقف من الغارة على الدوحة يعكس هذا النهج: فهي تقف إلى جانب قطر ضد إسرائيل، لكنها في الوقت ذاته تحافظ على قنوات تواصل مع واشنطن وموسكو. هذه المرونة تمنحها قدرة على المناورة حيث تفقد القوى الأخرى مصداقيتها.

التحديات الاقتصادية: الوجه الآخر للصعود

لكن تركيا ليست في موقع صعود بلا قيود. التضخم المتصاعد والديون الداخلية يحدّان من قدرتها على الدخول في مغامرات عسكرية واسعة. لذا تعتمد أنقرة على أدوات الدبلوماسية، الاستثمار، والتحالفات المرنة لتعويض ما لا تستطيع تحقيقه بالقوة الصلبة.

خلاصة

الغارة الإسرائيلية على الدوحة كانت جرس إنذار للجميع. أما تركيا، فقد تعاملت معها كفرصة لتعزيز موقعها كقوة بديلة عن واشنطن في عيون العواصم الخليجية. في لحظة يتراجع فيها النفوذ الأمريكي وتفقد إسرائيل قدرتها على تبرير عدوانها، تتحرك أنقرة لعرض نفسها كـ"الضامن الجديد". السؤال هو: هل تستطيع تركيا تحويل هذا التموضع إلى مشروع مستدام، أم أن أزماتها الداخلية ستكبح قدرتها على لعب هذا الدور؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.