ملوك الطوائف في الأندلس وملوك العرب اليوم: إعادة إنتاج التاريخ بآليات جديدة

التاريخ لا يتكرر بحذافيره، لكنه يعيد إنتاج أنماطه في صور جديدة. حين نقرأ عن ملوك الطوائف في الأندلس، ندرك أن الانقسام الداخلي والارتهان للأجنبي كانا وصفة انهيار حضارة امتدت قرونًا. واليوم، يقف العالم العربي أمام مشهد مشابه، لكنه أكثر تركيبًا وخطورة: أنظمة مجزأة، قرارات مرتهنة، وولاءات متفرقة بين القوى الكبرى. ما أشبه الماضي بالحاضر، وإن اختلفت الوسائل والأسماء.

الأندلس: من الوحدة إلى الطوائف

بعد سقوط الخلافة الأموية في قرطبة مطلع القرن الحادي عشر، انقسمت الأندلس إلى دويلات صغيرة. أمراء المدن نصبوا أنفسهم ملوكًا: إشبيلية، غرناطة، طليطلة، بلنسية وغيرها. لكن هذه "الممالك" لم تكن سوى إقطاعات متناحرة، تستنزف قوتها في صراعات لا تنتهي.
بدلًا من بناء مشروع جامع، انشغل كل ملك بتأمين عرشه حتى لو كان الثمن الاستعانة بالعدو المسيحي ضد إخوانه. وهكذا تحوّل الداخل الأندلسي إلى ساحة تناحر، والعدو إلى حَكمٍ متحكم بمصير الجميع.

العرب اليوم: دول كبرى في الجغرافيا… صغيرة في القرار

رغم امتلاك العرب رقعة جغرافية هائلة، موارد طبيعية ضخمة، وموقع استراتيجي فريد، إلا أن الواقع السياسي يعكس صورة موازية للطوائف. كل دولة عربية تبدو مستقلة بحدودها وأعلامها، لكنها في الجوهر صغيرة في قرارها، تعتمد على الخارج في أمنها واستراتيجياتها.
القرارات المصيرية تمر عبر عواصم الوصاية: واشنطن، باريس، لندن، موسكو، أو بكين. وما يُسمى "السيادة" ليس أكثر من ديكور بروتوكولي يختفي عند أول أزمة.

الاستقواء بالخارج: من قشتالة إلى واشنطن

كما دفع ملوك الطوائف الجزية لملوك قشتالة وليون طلبًا للحماية، نجد اليوم أنظمة عربية تستدعي الجيوش الأجنبية إلى قواعدها، وتبرم صفقات تسليح بعشرات المليارات لتأمين حماية العرش لا حماية الشعب.
الفرق أن الخارج لم يعد يطلب ذهب الأندلس فقط، بل يريد النفط، الغاز، الممرات البحرية، والسيطرة على القرار السياسي برمته. ومن المفارقة أن العدو التاريخي نفسه (إسرائيل) صار حليفًا "معلنًا" عند بعض هذه الأنظمة، تحت شعار "السلام" و"التطبيع"، في إعادة إنتاج حرفي لمشهد الاستقواء بالغريب ضد القريب.

الترف والوهم: قلاع بلا أساس

ملوك الطوائف شيّدوا قصورًا مترفة واحتفلوا بالجواري والشعراء بينما بلادهم تنزف. واليوم، تتكرر الصورة عبر أبراج شاهقة ومشاريع استعراضية وإعلام ممول لتلميع صورة النظام.
لكن الترف لا يصنع شرعية. بل على العكس، يعمّق الفجوة بين الحاكم والمحكوم. فالشعوب ترى أوطانها غارقة في الفقر والبطالة والتهميش، بينما السلطة تصرف ثرواتها على مظاهر براقة لا تحميها من الانهيار.

الفارق الجوهري: وصاية مفروضة لا مجرد ضعف داخلي

ملوك الطوائف كانوا انحرافًا داخليًا عن مسار حضاري صاعد عاشته الأندلس. أما العرب اليوم، فمشكلتهم أعقد: فهم يتحركون داخل منظومة جبر سياسي عالمي، حيث القوى الكبرى لا تسمح بقيام مشروع عربي جامع مستقل.
بمعنى آخر: ضعف الطوائف كان نتيجة صراعات محلية، أما ضعف العرب اليوم فهو جزء من هندسة دولية مقصودة. لقد صُمم النظام الإقليمي بحيث تبقى المنطقة مجزأة، لأن قوتها في انقسامها تضمن استمرار السيطرة الغربية.

من الاحتلال الصاخب إلى الاحتلال الناعم

الأندلس انتهت باحتلال مباشر واستيلاء صريح. أما العرب اليوم فيعيشون "احتلالًا ناعمًا":

  • اقتصادات مرتهنة بالقروض والأسواق العالمية.
  • جيوش مرتبطة بتسليح غربي لا تعمل دونه.
  • إعلام موجّه يصنع وعيًا زائفًا.
  • نخب سياسية لا تستمر إلا برضا القوى الكبرى.

الاحتلال المعاصر لم يعد بحاجة لرفع الأعلام الأجنبية فوق العواصم، يكفي أن تُدار القرارات الاستراتيجية من الخارج.

إسقاطات معاصرة:

  • غزة: الأنظمة العربية الكبرى لم تحرك جيوشها دفاعًا عن الشعب الفلسطيني، بل انتظرت ما تقرره واشنطن وتل أبيب، مكتفية بالبيانات والدبلوماسية الشكلية.
  • قصف قطر: الغارة الإسرائيلية على الدوحة كشفت هشاشة سردية "الأمن عبر التطبيع". فكما كان ملوك الطوائف يستدعون قشتالة لحمايتهم، فإذا بالحماية تتحول إلى تهديد، نجد أن التطبيع اليوم لا يمنح الأمن بل يفتح الباب لمزيد من الاستباحة.
  • التطبيع الإبراهيمي: صُوِّر على أنه ضمانة للاستقرار، لكنه في جوهره إعادة إنتاج لعلاقة "الجزية" بوجه عصري: تقديم تنازلات سياسية واقتصادية مقابل بقاء الأنظمة محمية.

الدرس المستفاد

بين سقوط الأندلس والواقع العربي الراهن مسافة قرون، لكن الخيط واحد: حين يتفتت الداخل ويستقوي الحاكم بالأجنبي، تنهار الدولة مهما بدت قوية.
الفرق أن الطوائف سقطت بسرعة وبصخب، أما العرب اليوم فينهارون ببطء، كما لو أن المرض مزمن يبقي الجسد حيًا لكنه بلا روح.

خاتمة

ملوك الطوائف في الأندلس لم يسقطوا لأنهم افتقروا إلى الموارد أو الحضارة، بل لأنهم افتقدوا المشروع الجامع، واستسلموا لترف شخصي وولاء خارجي. واليوم، يكرر ملوك العرب المشهد بوسائل جديدة، تحت عباءة النظام الدولي، محكومين بـ"جبر سياسي" يضمن استمرار تجزئة المنطقة.
التاريخ لا يُكتب فقط في الكتب، بل يُعاد أمام أعيننا. والسؤال: هل يتعلم العرب من مأساة الأندلس قبل أن يصبح حاضرهم مجرد فصل آخر في كتاب السقوط؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.