
نزع الإنسانية كأداة استراتيجية
لم يكن وصف الفلسطيني بـ"الحيوان" أو "الوحش" مجرد انفعال؛ بل هو أداة مدروسة ضمن ما يُعرف بآليات نزع الإنسانية. حين يُصوَّر شعب بأكمله كخطر طفيلي أو كائن متدنٍّ، يسهل تبرير أي شكل من أشكال العنف ضده. فالقصف يصبح "تنظيفًا"، والحصار يتحول إلى "إجراء وقائي"، والإبادة تُقدَّم كـ"دفاع مشروع". إنها اللغة نفسها التي استخدمتها القوى الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لتجريد الشعوب الأصلية من حقها في الوجود.
من التصريح إلى القرار: كيف تتحول الكلمات إلى سياسة ميدانية
التصريحات الإسرائيلية الأخيرة تكشف أن هذه اللغة ليست فردية بل سياسية. ففي 9 أكتوبر 2023 وصف وزير الدفاع يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم "بشر-حيوانات"، وأعلن فورًا حصارًا كاملاً على غزة: لا كهرباء، لا غذاء، لا وقود. بعدها، في 20 أكتوبر، قال وزير الزراعة آفي ديختر: "سنستهدف حماس مثل الحيوانات البشرية سواء أثناء الحرب أو بعدها." أما وزير الخارجية إيلي كوهين فوصف الفلسطينيين بأنهم "وحوش"، معتبرًا أن كلمة "حيوانات" إطراء لهم. وفي السياق العسكري، صرّح اللواء غسان عليان بأن "المخلوقات البشرية يجب أن تُعامل على هذا النحو"، متوعدًا غزة بالدمار: "أردتم الجحيم، فستنالونه."
هذه ليست خطابات معزولة، بل لغة تقترن مباشرة بقرارات ميدانية: حصار وتجويع وتدمير شامل. إنها اللحظة التي تتحول فيها الكلمة إلى سياسة، والاستعارة إلى قصف، والتوصيف العنصري إلى ممارسات عسكرية.
التحصين الخطابي والازدواجية الأخلاقية
المفارقة الصارخة أن من يطلق هذه الأوصاف لا يتعرض لأي إدانة جدية، بينما يُهاجَم من يفضحها بتهمة "خطاب الكراهية". هنا نرى ما يُسمى بالتحصين الخطابي: عنصرية محصّنة بالقانون والسياسة والدبلوماسية. تصبح العنصرية "حرية تعبير"، بينما النقد الذي يكشفها "إهانة" أو "جريمة أخلاقية". إنها لعبة موازين القوة: من يملك الهيمنة الإعلامية يملك أيضًا سلطة تعريف الخير والشر.
الخاتمة
إن أخطر ما في هذا المشهد ليس فقط سقوط الأخلاق في وحل السياسة، بل نجاح القوى المهيمنة في إعادة صياغة اللغة نفسها لتخدم العنف. نزع الإنسانية عن الفلسطيني يتحول إلى خطاب مشروع، بينما يصبح فضح هذا الخطاب هو الجريمة. إنها الازدواجية التي تُظهر كيف يُدار الوعي في العالم: عنفٌ محميّ بالكلمة، وضحيةٌ محجوبة عن الرؤية.