موت العدالة الدولية: حين تتحول الجريمة إلى نظام

لم يعد العالم يعيش زمن ازدواجية المعايير، بل زمن سقوطها التام. الفيتو الأمريكي لم يعد مجرد إجراء سياسي لتعطيل قرار، بل إعلان واضح أن القانون الدولي مات، وأن ما يحكم البشرية اليوم هو القوة العارية وحدها. لم تعد الجرائم بحاجة إلى تبرير أو تمويه؛ بل تُرتكب أمام العالم علنًا، بينما المؤسسات الدولية تُستخدم كغطاء يشرعن غياب العدالة بدلًا من تحقيقها.

من ازدواجية المعايير إلى غياب المعايير

لطالما كان الخطاب الغربي يتستّر وراء شعارات القانون والشرعية الدولية، حتى وهو ينتهكها. كان هناك جهد لتجميل القبح عبر لغة “السلام” و“حقوق الإنسان”. أما اليوم فقد انتهى زمن التجميل: واشنطن تمارس الفيتو بلا حرج، تمنع وصول المساعدات، وتبرّر الإبادة باعتبارها “دفاعًا عن النفس”. هنا لم تعد المشكلة في كذب الخطاب، بل في زوال الخطاب ذاته. نحن أمام عالم لم يعد يخجل من إعلان أن القوة هي القانون.

الفيتو: أداة لإلغاء العالم

حق النقض وُضع كاستثناء قانوني لحماية مصالح القوى الكبرى. لكن واشنطن حوّلته إلى قاعدة تحكم النظام الدولي كله. الفيتو الأمريكي اليوم لا يعني تعطيل قرار وحسب، بل إلغاء الإرادة الجماعية للبشرية، وتحويل مجلس الأمن إلى مؤسسة لتكريس الهيمنة. العالم يصرخ بالجرم، لكن زر واحد في واشنطن يكفي لإسكات الجميع. هكذا لم يعد الفيتو مجرد حق، بل سلاح سياسي يلغي العالم بأسره.

صناعة العجز العالمي

المعرفة وحدها لا تكفي. الجميع يعلم بالجريمة، والجميع يرى الانحياز الأمريكي، لكن لا أحد يتحرك. هذا ليس عجزًا طبيعيًا بل صناعة متقنة: اقتصاد عالمي مربوط بالدولار، أنظمة مرتهنة للحماية العسكرية، نخب سياسية تُشترى بالصفقات، وشعوب محاصرة بآلة إعلامية تخدّر وعيها. النتيجة أن الغضب يتحول إلى عجز، وأن الفضيحة المكشوفة تصبح واقعًا عاديًا.

موت العدالة الدولية

لم يعد القانون الدولي إطارًا يُرجع إليه لحسم النزاعات، بل مجرد نصوص محفوظة في الأرشيف. القرارات تُكتب، لكنها بلا أثر أمام من يملك السلاح والمال. بهذا المعنى، العدالة الدولية ماتت، ليس لأنها غُيّبت عن قضية بعينها، بل لأنها فقدت وظيفتها الجوهرية: ردع القوة. ما نشهده اليوم ليس انحرافًا عارضًا، بل نهاية مرحلة كاملة من الوهم بأن هناك نظامًا يحمي الضعفاء.

ما بعد الفضيحة: العالم العاري من القانون

هذه اللحظة ليست مجرد أزمة سياسية، بل تحوّل حضاري. البشرية تعيش في نظام لا يعترف إلا بالقوة، ولا يمنح حتى وهم العدالة. بالنسبة للشعوب وحركات التحرر، السؤال لم يعد: كيف نلجأ إلى القانون الدولي؟ بل: هل يمكن بناء عدالة بديلة خارج المنظومة الغربية؟ أم أننا ندخل عصر “الوحشية المقننة” حيث تتحول الجريمة إلى القاعدة، والعدالة إلى استثناء مستحيل؟

لم يعد العالم محكومًا بقانون ولا بعدالة، بل بقوة عارية تفرض الجريمة كواقع. إن موت العدالة الدولية ليس حدثًا عابرًا، بل إعلان رسمي بأن البشرية دخلت زمنًا جديدًا: زمن النظام بلا قانون.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.