تيك توك تحت الحصار: هل تستطيع إسرائيل خنق الأصوات المعارضة؟

أدركت إسرائيل أن المعركة لم تعد تقتصر على ساحات القتال ولا على أروقة السياسة التقليدية، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي حيث يتشكل وعي الأجيال الجديدة. تيك توك تحديدًا صار ميدانًا بالغ الأهمية، إذ يكشف عن ميول الشباب الأمريكي نحو التعاطف مع الضحية ونقد الرواية الرسمية الغربية. من هنا جاء السعي لتطويع هذه المنصة عبر سياسات حجب وتقييد المحتوى. لكن السؤال الجوهري: هل يمكن حقًا خنق الخطاب المعادي لإسرائيل على المدى الطويل؟

آليات السيطرة: كيف يُدار الحجب؟

السيطرة الرقمية لا تجري بالصدفة، بل عبر أدوات محددة:

  • الخوارزميات الآلية: أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تراقب الكلمات المفتاحية والوسوم لتقليص الانتشار أو إزالته.
  • التبليغات الممنهجة: شبكات ضخمة من الحسابات تسعى لوصم أي محتوى ناقد بأنه مخالف.
  • المبلغون الموثوقون: كيانات معتمدة من المنصات تُعطى صلاحيات لتحديد "المحتوى الضار".
  • الضغط السياسي غير المباشر (jawboning): حكومات تضغط على الشركات بحجة "مكافحة الكراهية" أو "الأمن القومي"، بينما الهدف الفعلي ضبط السرد الإعلامي.

حدود النجاح: لماذا لا تكفي الرقابة؟

رغم هذه الأدوات، يبقى النجاح محدودًا لعدة أسباب:

  1. التعددية المنصاتية: المستخدم لا يعيش في تيك توك وحده، بل ينتقل إلى يوتيوب، إكس، إنستغرام، وتيليجرام.
  2. رد الفعل المعاكس: عندما يُدرك الشباب أن أصواتًا تُقمع عمدًا، يولّد ذلك شكًا أعمق ويزيد من تعاطفهم مع الروايات البديلة.
  3. الشفافية والفضح: منظمات حقوقية وصحفية توثق الحذف المنحاز، ما يحول الرقابة نفسها إلى قضية إعلامية.
  4. الأخطاء التقنية: الاعتماد الكثيف على الخوارزميات يفضي إلى حذف خاطئ، ما يفضح طبيعة الرقابة.

السياق الأمريكي: قيود القانون والحرية

في الولايات المتحدة، الدستور يحمي حرية التعبير من تدخل الحكومة المباشر، لكن الشركات الخاصة مثل تيك توك لها الحق في إزالة المحتوى. لهذا تميل الجهات الضاغطة لاستخدام "التعاون الطوعي" بدل الفرض القانوني المباشر. ومع ذلك، كلما انكشف هذا الضغط، زاد الجدل حول الحريات الرقمية ومشروعية التلاعب بالسرد.

المعركة على وعي الشباب

الشباب الأمريكي لا يتأثر بسهولة بالدعاية المباشرة، بل ينفر منها. ما يحاول الاحتلال فعله هو شراء الوقت: تقليل انتشار المحتوى الناقد ريثما تُضخ الرواية الرسمية عبر الإعلام التقليدي. لكن في عالم مفتوح الشبكات، هذه السيطرة هشة، إذ لا يمكن وأد خطاب بالكامل مهما كانت قوة الحجب.

المفارقة الجوهرية

الرقابة التي يُفترض أن تحمي صورة إسرائيل قد تتحول إلى أداة تدميرها في عيون الشباب. فعندما يشعر الجيل الجديد أن رأيه يُخنق عمدًا، تصبح الرواية الرسمية في نظره أقل شرعية، ويزداد عطشه للبحث عن الحقائق في قنوات بديلة. وهكذا تتحول محاولات الحصار إلى اعتراف ضمني بضعف الخطاب المهيمن.

التكتيكات المضادة: كيف يتجاوز الناشطون الحجب؟

لمواجهة محاولات التضييق، يلجأ الناشطون الشباب إلى عدة استراتيجيات تجعل من الرقابة مهمة شبه مستحيلة:

  • إعادة رفع المحتوى بصيغ مختلفة (قص ولصق، إعادة تحرير الفيديو، تغيير الصوت أو الترجمة) بما يربك الخوارزميات.
  • استخدام وسوم بديلة وتلاعب بالكلمات لتجاوز أنظمة التتبع الآلي.
  • المنصات البديلة مثل تيليجرام ومنصات لا مركزية، حيث يكون التحكم أصعب.
  • التوثيق المتوازي: نشر نفس المادة على عدة منصات لضمان بقائها وانتشارها رغم الحذف.
  • التسريب الإعلامي: تحويل الرقابة ذاتها إلى قضية سياسية، بحيث يصبح الحجب سببًا إضافيًا لتداول المضمون المحجوب.

هذه التكتيكات تجعل أي محاولة للسيطرة الكاملة على وعي الشباب عبر المنصات الاجتماعية أشبه بمحاولة حجب الماء عن النهر؛ قد يتباطأ مجراه، لكنه يجد دائمًا مسارًا آخر للانسياب.

الخلاصة

قد تستطيع إسرائيل تقليص وصول المحتوى المعادي لها مؤقتًا على تيك توك، لكنها لن تنجح في تغيير قناعات جيل كامل يعيش في فضاء متعدد المصادر ويمتلك حسًا نقديًا عاليًا. السيطرة الرقمية هنا لا تنتج وعيًا بديلاً، بل تكشف هشاشة الرواية وتسرّع انهيارها. المعركة الحقيقية ليست على حجم المحتوى بل على صدقية الخطاب، وهذه معركة لا تحسمها الخوارزميات.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.