
الفيدرالية الأمريكية: توازن هشّ تاريخيًا
الولايات المتحدة قائمة على نظام فيدرالي يمنح الولايات استقلالية كبيرة في شؤونها الداخلية، مع صلاحيات للحكومة الفيدرالية في قضايا الدفاع والسياسة الخارجية والاقتصاد العام. ورغم وجود خلافات تقليدية حول الضرائب، الهجرة، أو قضايا الحقوق المدنية، إلا أن الرؤساء السابقين كانوا يديرون هذه النزاعات عبر المحاكم الفيدرالية أو التسويات السياسية دون الدخول في صراع علني مباشر مع حكومات الولايات.
ما الذي غيّره ترامب؟
1. شخصية تصادمية لا مؤسساتية
ترامب لا يتعامل مع النظام السياسي كمنظومة توازنات، بل كمعركة مفتوحة. هذا الطابع الشعبوي جعله يستخدم خطابًا هجوميًا ضد حكام الولايات أنفسهم، واعتبارهم جزءًا من “النخب الفاسدة” أو “المعارضة العميقة”، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الرئاسة الأمريكية الحديثة.
2. تسييس الملفات الأمنية
في قضايا مثل الهجرة أو الاحتجاجات الداخلية، لم يكتفِ ترامب بالضغط القضائي أو المالي، بل لجأ إلى نشر قوات في مدن ترفض سياساته (كما حدث في بورتلاند 2025). هذه الخطوة تجاوزت الأعراف القديمة التي كانت تفصل بين اختصاصات الدولة الفيدرالية وإدارة الأمن المحلي.
3. التحول الإعلامي والشعبوي
في الماضي، الخلاف بين الرئيس والولايات كان “خلافًا نخبويًا” لا يصل إلى المواطن العادي إلا عبر أحكام قضائية. أما مع ترامب، فقد صار الخلاف مادة يومية في الإعلام وخطابات التجمعات الانتخابية، ما حوّله من مسألة قانونية إلى صراع هوية وانقسام شعبي.
4. الاستقطاب الحزبي غير المسبوق
قبل ترامب، كان الحزب الجمهوري والديمقراطي يختلفان في التفاصيل، لكنهما يلتقيان عند “المصلحة العليا للدولة الفيدرالية”. مع ترامب، تحولت العلاقة إلى صفرية: ولايات ديمقراطية بالكامل ضد سياساته، وولايات جمهورية تصطف خلفه بلا تحفظ. هذا الاستقطاب كشف هشاشة الفيدرالية الأمريكية.
لماذا لم تظهر هذه الأزمات قبل ترامب؟
- الرؤساء السابقون حافظوا على هيبة المؤسسات، فلم يغامروا بمواجهة علنية مع حكومات الولايات.
- الإعلام لم يكن ساحة انقسام حاد كما اليوم، بل أداة توجيهية أكثر انضباطًا.
- الاستقطاب المجتمعي لم يصل إلى هذه الدرجة؛ فقد كان هناك توافق أوسع على “الحد الأدنى” من القيم المشتركة.
- النظام الحزبي كان أكثر انضباطًا، يمنع الرئيس من التصرف خارج قنواته الطبيعية.
الخلاصة
ما نراه اليوم مع ترامب ليس مجرد “خلافات طبيعية في نظام فيدرالي”، بل تصدع عميق في العقد الاجتماعي الأمريكي. لأول مرة، يتحول الصراع بين الرئيس والولايات من خلاف قانوني إلى حرب سياسية مفتوحة، تهدد بتقويض صورة “الاتحاد” الأمريكي نفسه.
ترامب لم يخلق الانقسام من فراغ، لكنه كشف هشاشة البنية الفيدرالية التي كانت تُدار تاريخيًا بالتراضي والتوازن. ومع استمرار هذا النهج، تصبح العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات إحدى الساحات المركزية في مستقبل السياسة الأمريكية.