ثقافة البحث عن السعادة: سلعة جديدة في سوق الوهم

لم يعد الحديث عن السعادة مسألة شخصية أو فلسفية، بل صار خطابًا عامًا يملأ الكتب والبرامج والدورات التدريبية. في كل مكان يلاحقك شعار: "كن سعيدًا"، "ابتسم للحياة"، "السعادة قرارك". لكن خلف هذه الشعارات يختبئ مشروع تجاري وثقافي ضخم حوّل السعادة إلى سلعة تباع وتُشترى، بدل أن تكون حالة إنسانية داخلية مرتبطة بالمعنى والكرامة. بهذا التحول، صار الإنسان المعاصر مطاردًا لا لشيء إلا ليكون "سعيدًا"، وكأن السعادة غاية وجوده الوحيدة، حتى وإن كان واقعه مليئًا بالظلم والفشل والأزمات.

من الفلسفة إلى السوق

في الفكر الإنساني القديم، كانت السعادة سؤالًا وجوديًا عميقًا. الفلاسفة تحدثوا عنها باعتبارها ثمرة الحكمة أو الفضيلة أو الانسجام مع الطبيعة. لكنها اليوم اختُزلت في وصفات جاهزة، تقدمها كتب التنمية الذاتية أو مقاطع تحفيزية على منصات التواصل.
هذا التحول من سؤال فلسفي إلى منتج تجاري يعكس سيطرة منطق السوق على أعمق تجاربنا الإنسانية. فبدل أن تُفهم السعادة كتجربة متفردة تنبع من علاقة الإنسان بنفسه وبالعالم، صارت "منتجًا" له خطوات ومراحل، يُسوّق مثل أي سلعة أخرى.

وهم الوصفات الجاهزة

أبرز ما يميز "صناعة السعادة" هو الوهم بأن الأمر لا يحتاج إلا إلى بعض الخطوات البسيطة:

  • "فكر بإيجابية."
  • "غيّر طريقة حديثك."
  • "اكتب ثلاثة أشياء تشكر عليها كل صباح."

هذه النصائح لا تُحل مشكلات عميقة كالظلم الاجتماعي أو ضيق المعيشة أو غياب العدالة. لكنها تُغلف الأزمة بطبقة من الخطاب التفاؤلي الذي يجعل الفرد يظن أن عجزه مشكلة في شخصيته، لا في واقعه. الوصفة الجاهزة لا تمنح حلولًا، بل تُسكن الألم مؤقتًا، ثم تترك الفرد أكثر إحباطًا حين يدرك أن خطوات "السعادة الفورية" لم تُغيّر شيئًا في حياته.

السعادة كعبء جديد

المفارقة أن ثقافة "كن سعيدًا دائمًا" لم تجلب السعادة، بل أضافت عبئًا نفسيًا جديدًا. صار الإنسان يشعر بالذنب لأنه غير سعيد، وكأن الحزن عيب أو فشل شخصي. هذه المطاردة المستمرة للسعادة تخلق ضغطًا عصبيًا هائلًا: عليك أن تبتسم في العمل، أن تظهر مبتهجًا على وسائل التواصل، أن تخفي تعبك حتى لا تتهم بأنك "سلبي".
هكذا تتحول السعادة من حالة عفوية إلى واجب اجتماعي، ومن شعور داخلي إلى قناع يُفرض عليك ارتداؤه.

التكنولوجيا وتسليع المشاعر

دخلت التكنولوجيا على الخط لتحوّل المشاعر نفسها إلى بيانات. ظهرت تطبيقات تقيس حالتك المزاجية، وتمنحك نصائح فورية لتكون أكثر سعادة. بعضها يطلب منك تسجيل مشاعرك اليومية ليحوّلها إلى رسوم بيانية، وكأن السعادة معادلة حسابية يمكن ضبطها بالضغط على شاشة.
حتى "لحظات الفرح" باتت تُلتقط وتُباع كصور ومنشورات فيسبوك وإنستغرام. صارت السعادة مشهدًا علنيًا، لا تجربة داخلية. وللمفارقة، كلما زاد عرض السعادة على المنصات، زادت مشاعر الفراغ عند الناس الذين يقارنون أنفسهم بغيرهم باستمرار.

البعد السياسي للسعادة

قد يُظن أن الأمر مجرد موضة ثقافية، لكنه في العمق يحمل بعدًا سياسيًا خطيرًا. حين يُقال للإنسان باستمرار إن سعادته "خيار شخصي"، فإن ذلك يبرر تجاهل الأزمات العامة: البطالة، القمع السياسي، غياب العدالة الاجتماعية. تصبح المشكلة فيك لأنك "لم تفكر بإيجابية"، لا في النظام الذي يحرمك من حقوقك الأساسية.
بهذا الشكل، يتحول خطاب السعادة إلى أداة لإخماد الغضب وتفريغ المطالب الجماعية. بدلًا من أن يسأل الناس: "لماذا نعاني؟" يُسألون: "لماذا لا نبتسم؟". وهنا تكمن خطورة تحويل السعادة إلى واجب فردي: إنها تصرف الناس عن التفكير في جذور معاناتهم.

السعادة الحقيقية أم السعادة المزيفة؟

من المهم التمييز بين السعادة بوصفها تجربة داخلية مرتبطة بالمعنى، وبين "السعادة الصناعية" التي تُباع في السوق. الأولى تنبع من الإحساس بالكرامة، من عدالة العلاقات الاجتماعية، من الحرية والمشاركة والمعرفة. الثانية مجرد حالة مؤقتة، أشبه بمسكن نفسي، تمنح نشوة قصيرة ثم تترك فراغًا أكبر.
السعادة الحقيقية ليست في تجاهل الألم، بل في مواجهته. ليست في تكرار عبارات تحفيزية، بل في بناء شروط واقعية تسمح للإنسان أن يعيش بكرامة ووعي. أما السعادة التي تُسوّق تجاريًا فهي مجرد قناع يخفي التعاسة الجمعية ويحوّلها إلى عبء شخصي.

وهم مستمر

الخطاب السائد حول السعادة لا يتوقف، بل يتجدد باستمرار ليحافظ على السوق مفتوحة. اليوم يباع كتاب، غدًا دورة تدريبية، وبعدها تطبيق ذكي. كل هذه المنتجات تقوم على وعد واحد: "سنمنحك السعادة". لكنها جميعًا تتجاهل أن السعادة ليست منتجًا يمكن استهلاكه، بل تجربة إنسانية لا تُختزل في خطوات أو شعارات.

نحو إعادة الاعتبار للسعادة

التحرر من هذا الوهم لا يعني إنكار أهمية السعادة في الحياة، بل يعني استعادتها من يد السوق. المطلوب هو فهم أن السعادة لا تتحقق عبر وصفات جاهزة، بل عبر بناء شروط حياة إنسانية عادلة:

  • عدالة اجتماعية تقلل من شعور الظلم.
  • حرية سياسية تتيح للإنسان المشاركة في تقرير مصيره.
  • علاقات إنسانية صادقة لا تخضع لسطحيات المظاهر الرقمية.

بهذا المعنى، تصبح السعادة نتيجة طبيعية للحياة الكريمة، لا هدفًا يُطارد بلا نهاية.

خاتمة

ثقافة البحث عن السعادة كما تُسوّق اليوم ليست إلا سوقًا جديدة للوهم. إنها تُحمّل الأفراد عبء أن يكونوا سعداء رغم ظروفهم القاسية، وتبيع لهم وعودًا لا تتحقق. لكنها في الوقت نفسه تُعميهم عن السؤال الأهم: لماذا يفتقرون أصلًا إلى مقومات السعادة الحقيقية؟
إن مواجهة هذا الخطاب تبدأ بالاعتراف أن السعادة ليست سلعة، بل حالة إنسانية تتطلب وعيًا وكرامة وعدالة. فالسعادة لا تُشترى، بل تُبنى على أرض صلبة من الحرية والمعنى. وما لم ندرك هذا، سنبقى أسرى لوصفات زائفة تزيد تعاستنا بدل أن تحررنا منها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.