التعليم كأداة للضبط الاجتماعي لا للمعرفة

في المجتمعات العربية، لم يعد التعليم مجرد وسيلة لنقل المعرفة أو تطوير الفكر النقدي، بل أصبح أداة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي القائم. بدل أن يعلّم الفرد كيف يفكر ويبدع، يُعلّمه كيف يطيع، كيف يلتزم بالقواعد دون مساءلة، وكيف يندمج في نسق اجتماعي محدد. هذا التحول لا يحدث بالصدفة، بل هو نتيجة مشروع متكامل يستخدم المناهج والاختبارات والطقوس المدرسية لإنتاج مواطن "مطيع" أكثر من كونه مفكرًا حرًا.

من التعليم كمعرفة إلى التعليم كضبط

الفكرة الأساسية أن التعليم في بعض الأنظمة لا يُصمَّم لتطوير العقل، بل لتشكيل الفرد وفق نموذج اجتماعي مقبول. المناهج تُركز على الحفظ والتكرار، لا على النقد والتحليل. يدرس الطالب معلومات جاهزة دون أن يُطرح عليه السؤال: لماذا؟ أو: ماذا تعني هذه المعرفة؟
بهذه الطريقة، يتحول التعليم من وسيلة لبناء التفكير الحر إلى آلة لإعادة إنتاج القيم السائدة، وتعليم الطلاب كيفية التكيف مع التسلسل الهرمي، والانضباط، والانصياع للقوانين دون جدال.

التعليم وصناعة الطاعة

المدرسة أصبحت مختبرًا لتدريب الأفراد على الطاعة قبل المعرفة. نظام الدرجات، الانضباط، حضور الدروس، كل هذه العوامل تصنع حالة من الخضوع المبكر. الطفل يتعلم أن المكافأة تأتي من الامتثال، وأن العقاب يفرض على من يشذ عن القاعدة.
هذه الآلية ليست بريئة: فهي تُجهز الأفراد ليصبحوا مواطنين قابلين للتحكم، لا مفكرين قادرين على مساءلة السلطات أو تحدي الأوضاع القائمة. بالتالي، المدرسة تتحول إلى أداة إعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي أكثر من كونها مساحة للتفكير النقدي.

المناهج: إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي

المناهج نفسها تعكس أولويات السيطرة أكثر من التعليم الحر. التاريخ يُقدَّم بطريقة تقليدية، تركز على الأحداث والشخصيات دون تحليل سياقات القوة أو الأنظمة السياسية التي أنتجتها. العلوم تُدرَّس كحقائق ثابتة بلا مناقشة نقدية. اللغة تُستخدم لتعزيز الانضباط والنظام اللغوي الرسمي، لا لتطوير القدرة على التعبير الحر.
بهذا الشكل، يُنشأ جيل يعرف الحقائق دون أن يعرف معناها أو سياقها، قادر على التكيف مع الواقع أكثر من كونه قادرًا على تغييره.

الاختبارات والتحكيم الرقابي

الاختبارات المدرسية ليست مجرد تقييم للمعرفة، بل أداة لضبط السلوك. يُكافأ الطالب الذي يحفظ وينسخ، ويُعاقب الذي يسأل أو يشكك. هذه المنهجية تعلّم أن النجاح مرتبط بالامتثال وليس بالإبداع أو الفهم العميق.
حتى التعليم العالي لا يخرج عن هذا الإطار، حيث تُضبط الأبحاث والمناهج وفق المعايير الرسمية والرقابة السياسية، فتنتج المعرفة "المقبولة" لا المعرفة "التحررية".

الضغوط الاجتماعية وسوق العمل

النظام التعليمي المصمم للضبط لا يعمل في فراغ، بل يتكامل مع سوق العمل الذي يحتاج إلى قوة بشرية مطيعة، قابلة للتكيف مع أعباء الروتين أكثر من كونها قادرة على الابتكار. الفرد المتعلم بهذا الشكل يصبح مؤهلًا للوظيفة، لكنه غير مجهز للمساءلة أو التغيير أو الإبداع المستقل.
النتيجة: مجتمع يكرر نفسه، مواطنون يعملون بلا مساءلة، وغياب التفكير النقدي يجعل التغيير البنيوي شبه مستحيل.

البديل الممكن

التعليم ليس محكومًا بالضبط والتحكم، لكن استعادة دوره الحقيقي تتطلب تغييرات جذرية:

  • منهج يركز على التفكير النقدي: تعليم الطلاب كيف يسألون، كيف يحللوا، كيف يربطوا المعلومات بالسياق الواقعي.
  • تطوير المعلمين: تحويل دور المدرس من ناقل للمعرفة إلى ميسر للفكر النقدي والمناقشة.
  • تقليل الاعتماد على الاختبارات الصارمة: التركيز على التقييم النوعي والقدرة على التحليل بدلاً من الحفظ.
  • ربط التعليم بالواقع الاجتماعي والسياسي: تعليم الطلاب أن المعرفة أداة لفهم المجتمع والتأثير فيه، لا مجرد وسيلة للنجاح الشخصي.

خاتمة

التعليم كما يُمارس اليوم في كثير من الأنظمة العربية ليس مجرد عملية نقل معرفة، بل مشروع لإنتاج مواطنين قابلين للضبط أكثر من كونه مشروعًا لتحرير العقل. المناهج، الاختبارات، وسلوكيات المدرسة كلها تصنع الفرد المطيع، وليس المفكر المستقل. إعادة التفكير في التعليم تتطلب الاعتراف بأن المعرفة لا تعني الامتثال، وأن التعليم الحقيقي يجب أن يمكّن الإنسان من فهم واقعه، مساءلة السلطة، والمشاركة في صنع مستقبله.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.