
الضحية المنتقاة: حين يُعرَّف الألم سياسيًا
لم يكن الحديث عن المرأة الأفغانية محض تعاطف إنساني، بل كان جزءًا من استراتيجية خطابية. الغرب، منذ غزوه لكابل، صاغ قصة تُبرر الحرب عبر تصويرها معركة من أجل "تحرير النساء". هذه الصورة حوّلت البنت الأفغانية من ضحية حرب إلى رمز سياسي يخدم الغزو.
في المقابل، المرأة الغزّية لا تصلح كرمز في هذا السرد، لأن موتها تحت القصف الأميركي ـ الإسرائيلي لا يخدم الشرعية الغربية، بل يفضحها.
التمويل كسقف للخطاب الحقوقي
المنظمات النسوية والحقوقية الكبرى، حتى تلك التي تبدو مستقلة، مرتبطة في بنيتها بالتمويل الغربي. وهذا التمويل ليس بريئًا؛ فهو يوجّه الأجندة ويحدد الأولويات.
لذلك نرى أن "حقوق المرأة" في المنطقة العربية تختزل في قضايا الزواج المبكر أو الحجاب أو حرية التنقل، بينما يُتجاهل كليًا حقها في الحياة حين تكون تحت الاحتلال أو القصف. فكيف يمكن لمنظمة أن تتحدث عن "حق الغزّية في التعليم" بينما الممول ذاته يموّل من يدمّر مدرستها فوق رأسها؟
الطفل بين "الأيقونة" و"الضرر الجانبي"
الإعلام الغربي يهوّل صورة البنت الأفغانية التي تُحرم من المدرسة، ويصنع منها أيقونة تحرك العاطفة الدولية. لكن الطفل الفلسطيني يُقدَّم في نشرات الأخبار كـ"أضرار جانبية" أو يُزج به في خطاب "الدرع البشري" لتجريد الاحتلال من المسؤولية.
بهذا التلاعب، تتحول الطفولة إلى مادة سياسية: إما أيقونة تستثمر لتبرير التدخل، أو مجرد رقم يُمحى من الشاشة إن كان يفضح المعتدي.
الإعلام كساحة للهندسة الرمزية
صورة "الأرملة الباكية" في كابل تتصدر الصحف الغربية، بينما صورة "الأم التي تنتشل ابنتها من تحت الركام في غزة" تُدفن في الصفحات الداخلية أو تُحجب تمامًا.
الفرق ليس في هول المأساة، بل في طبيعة الرسالة المراد إيصالها للجمهور الغربي. في أفغانستان: الغرب يُقدَّم كمنقذ. في غزة: الغرب متورط كشريك في الجريمة. وهنا يصبح التعتيم ضرورة سياسية، لا مجرد خيار إعلامي.
المنظمات المحلية بين القيد والفراغ
حتى المنظمات النسوية والحقوقية في العالم العربي، التي يُفترض أنها أقرب إلى المشهد، تجد نفسها أسيرة التمويل والضغط السياسي. فهي تُسمع صوتها في قضايا اجتماعية داخلية، لكنها تصمت أو تكتفي ببيانات باهتة عند الحديث عن الاحتلال والقتل الجماعي.
هذا الصمت يعكس مأزقًا عميقًا: أن "المجال الحقوقي" لم يعد ساحة حرة بل جزءًا من شبكة معقدة من الضغوط والأجندات.
الدرس المخفي: من الضحية إلى الأداة
توظيف صورة المرأة والطفل يكشف عن حقيقة مُرّة: أن الضحية ليست دومًا إنسانًا يُنصف، بل أداة تُستخدم حين تخدم المشروع المهيمن، وتُمحى حين تهدده. في أفغانستان، تحولت المرأة إلى شاهد زور في خطاب الغزو. وفي غزة، حُجبت المرأة والطفل لأن ظهورهما يعني اتهامًا مباشرًا للغرب بالصمت أو التواطؤ.
الخلاصة
لم يكن غياب صوت المنظمات الحقوقية عن مأساة غزة نتيجة نقص في الأدلة أو الصور، بل لأن هذه الأدلة والصور تُدين القوى المهيمنة التي تملك زمام التمويل والقرار. في النهاية، ما يُقدَّم للعالم ليس الحقيقة، بل نسخة مُفلترة منها، تُعيد رسم صورة الضحية بما يخدم من يملك الميكروفون.