
أولاً: مضمون الرد الحماسي
بحسب التسريبات والتقارير الإعلامية، جاء رد حماس على خطة ترامب في نقاط محورية:
-
الموافقة على تبادل الأسرى بشكل كامل، بما يشمل الإفراج عن جميع الإسرائيليين المحتجزين والجثامين، شرط توفير بيئة ميدانية آمنة لتنفيذ العملية.
-
الترحيب بمفاوضات عبر الوسطاء لمناقشة تفاصيل البنود، وعدم إغلاق الباب أمام أي مسار دبلوماسي.
-
الاستعداد لتسليم إدارة غزة إلى هيئة تكنوقراط مستقلة تُشكَّل على أساس التوافق الوطني وتحظى بدعم عربي وإسلامي، شرط ألا يكون ذلك إقصاءً للحركة أو استبعادًا لوزنها السياسي.
-
التأكيد أن مستقبل القطاع والحقوق الفلسطينية قضايا وطنية عامة تُناقش في إطار وطني جامع يضم جميع الفصائل، وليس عبر اتفاق منفرد تُملى شروطه من الخارج.
-
التحفظ الضمني على بند نزع السلاح، إذ لم يرد في الرد أي قبول مباشر بطرح تجريد الحركة من قوتها العسكرية، وهو ما يعتبر خطًا أحمر في أدبيات المقاومة.
هذا الرد إذن لم يكن مجرد ورقة تقنية، بل عكس رؤية أوسع: التفاعل بحذر مع الضغوط، دون تقديم تنازل استراتيجي مجاني.
ثانياً: ما الذي يكشفه هذا الموقف؟
1. البحث عن دور مستقبلي لا يمكن تجاوزه
القبول بتسليم إدارة غزة إلى هيئة مستقلة قد يبدو، للوهلة الأولى، تنازلاً عن النفوذ. لكنه في الواقع محاولة لإعادة التموضع. فحماس تدرك أن الضغط العسكري والسياسي يهدف إلى استئصالها أو تهميشها. ومن ثمّ، جاءت موافقتها المشروطة لتؤكد: "لسنا متمسكين بالسلطة كإدارة يومية، لكننا لن نُقصى من المشهد الوطني". هنا نلمس إدراكًا من الحركة بأن أي معادلة قادمة لا بد أن تعترف بها كفاعل سياسي لا يمكن تجاوزه.
2. اللعب على وتر الشرعية الوطنية
حين شددت حماس على أن قضايا السلاح والمستقبل السياسي يجب أن تُبحث ضمن "إطار وطني جامع"، فهي وضعت نفسها في صف الشرعية الفلسطينية العامة، لا في موقع الفصيل المنعزل. هذه الصياغة مقصودة، لأنها تعيد الكرة إلى ملعب الفصائل الأخرى، وتُحملها المسؤولية أمام الشارع الفلسطيني إذا جرى تجاهل هذا البعد الجماعي.
3. مناورة تكتيكية لكسب الوقت
ثمة بُعد آخر: الحركة تحاول كسب مساحة زمنية تخفف الضغط الميداني. الرد الإيجابي – ولو بتحفظات – يتيح لها الدخول في مفاوضات، وهو ما قد يفرمل أي اندفاعة عسكرية إسرائيلية تحت غطاء خطة ترامب. وهذا التكتيك يتكرر في تاريخ الحروب حين تستخدم الأطراف المفاوضات كأداة إدارة للأزمة، لا كمدخل فوري للحل.
4. إدارة التوازن بين الداخل والخارج
حماس تعي أنها تواجه جبهتين: الداخل الفلسطيني، حيث لا مجال لقبول تنازلات صارخة، والخارج الدولي، حيث يطلب منها المجتمع الدولي مرونة. لذا جاء الرد بصياغة مزدوجة: يرضي الوسطاء ويُظهر تجاوبًا، لكنه يبعث رسالة لقاعدتها الشعبية بأن "الثوابت لم تُمس".
ثالثاً: ردود الفعل المقابلة
رد حماس وضع الأطراف الأخرى أمام معضلة:
-
إسرائيل اعتبرت أن الحركة تحاول المماطلة وتفادي الاستحقاقات الجوهرية، لا سيما ملف نزع السلاح، الذي ترى فيه شرطًا وجوديًا.
-
الولايات المتحدة رحبت شكليًا بالرد "الإيجابي"، لكنها أبقت الضغط متركزًا على ضرورة التنفيذ العملي.
-
الأطراف العربية الوسيطة (مصر وقطر) رأت في الرد فرصة لتحريك الملف، إذ يمكن البناء عليه لصياغة اتفاق جزئي أو مرحلي.
هذا التباين يعكس أن الكرة عادت إلى ملعب واشنطن وتل أبيب: هل تكتفيان بحد أدنى من التنازلات الآن، أم تدفعان نحو مواجهة جديدة لانتزاع المزيد؟
رابعاً: السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: اتفاق مرحلي جزئي
يتحقق تبادل الأسرى ووقف لإطلاق النار مع تسليم إدارة غزة إلى هيئة تكنوقراط، بينما تُرحّل القضايا الخلافية الكبرى (السلاح، الدور السياسي) إلى مرحلة لاحقة. هذا السيناريو يرضي الوسطاء، ويمنح الأطراف "إنجازًا مؤقتًا".
فرص تحققه: مرتفعة، لكن مع هشاشة ميدانية.
السيناريو الثاني: مفاوضات مطوّلة بلا نتائج حاسمة
يدخل الجميع في جولات طويلة من التفاوض حول البنود المعقدة، بينما يبقى الوضع الميداني معلّقًا بين التهدئة والهجمات المتقطعة. هذا السيناريو مرجّح إذا تمسك كل طرف بخطوطه الحمراء دون استعداد لتنازل كبير.
فرص تحققه: عالية جدًا.
السيناريو الثالث: انهيار المسار وعودة التصعيد
إذا أصرّت إسرائيل والولايات المتحدة على نزع سلاح حماس وإقصائها السياسي الفوري، فقد تعتبر الحركة أن الخطة مجرد محاولة للاستسلام. عندها قد تعود الحرب إلى الواجهة بزخم أشد.
فرص تحققه: متوسطة، لكن تصاعدها مرتبط بتطور الميدان.
السيناريو الرابع: تسوية أشمل غير متوقعة
قد تدفع الضغوط الدولية والأزمات المتراكمة باتجاه صفقة كبرى تشمل إعادة إعمار غزة، ترتيبات سياسية أوسع، وربما مسار تفاوضي فلسطيني–إسرائيلي جديد.
فرص تحققه: ضعيفة في المدى القريب، لكنها قائمة كإطار استراتيجي بعيد.
خامساً: رهانات حماس في المرحلة القادمة
-
الحفاظ على القدرة العسكرية كعامل ردع، مع تجنّب الاعتراف المباشر بمطلب نزع السلاح.
-
إبقاء ورقة الأسرى في يدها كورقة مساومة رئيسية تفرضها على الطاولة.
-
الرهان على الوسطاء الإقليميين (مصر وقطر وتركيا) لضمان ألا تتحول الخطة إلى إملاءات أمريكية–إسرائيلية.
-
التمسك بخطاب "الوطنية الجامعة" لإحراج الخصوم الفلسطينيين وإظهار نفسها كحارس للثوابت.
-
كسب الوقت وإدارة الاستنزاف بحيث تبقى الحركة لاعبًا حاضرًا حتى لو تغيرت الظروف الدولية أو تغيرت الإدارات.
سادساً: قراءة نقدية أعمق
إذا نظرنا أبعد من تفاصيل الخطة والرد، نكتشف أن جوهر الصراع يدور حول من يملك شرعية تمثيل الفلسطينيين؟. فواشنطن تسعى لإعادة صياغة المشهد بحيث يُدار القطاع عبر هيئة تكنوقراط بلا سلاح، ما يعني عمليًا تحييد حماس. بينما رد الأخيرة يعكس وعيًا بأن التنازل عن السلاح أو عن موقعها السياسي يعني الانتحار الاستراتيجي.
وبين هذين الحدّين، يلعب الوسطاء لعبة الموازنة: يريدون إنهاء الحرب، لكنهم لا يملكون قوة فرض الحلول الجذرية.
من هنا، الرد الحماسي ليس مجرد تفصيل تفاوضي، بل هو إعلان تموضع: حماس تُظهر استعدادًا للمرونة، لكنها ترسم خطًا أحمر واضحًا ضد الإقصاء. وهذا التموضع بحد ذاته يكشف طبيعة اللحظة: لا أحد قادر على فرض تسوية نهائية، وكل طرف يحاول أن يضمن مكانه في الطاولة حين تُكتب صفحة ما بعد الحرب.
خاتمة
رد حماس على خطة ترامب ليس نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من المساومة السياسية. هو ردّ محسوب يوازن بين ضرورات البقاء وضغوط الخارج، بين حاجة الحركة إلى تخفيف المعاناة في غزة وبين حرصها على عدم خسارة أوراق قوتها. في المقابل، تقف إسرائيل والولايات المتحدة أمام سؤال صعب: هل تقبلان بتسوية مرحلية تُبقي حماس لاعبًا أساسيًا، أم تراهنان على استنزافها عسكريًا حتى النهاية؟
السيناريو الأرجح – في ضوء المعطيات – هو مسار تفاوضي طويل يفرز اتفاقًا جزئيًا هشًا، يُعيد إنتاج المعادلة دون حل جذري. وهكذا يظل الصراع مفتوحًا، وتتأجل لحظة الحسم، بينما تواصل كل الأطراف بناء رهاناتها على الزمن والميدان.