تجميد الأصول بين القانون والسياسة: من إيران إلى السنوار

شهدت الساحة الدولية مؤخرًا إعلان تركيا عن تجميد أصول إيرانية داخل أراضيها بمرسوم رئاسي نُشر في الجريدة الرسمية. ورغم أن الخطوة تبدو ذات طابع قانوني صارم، إلا أن أثرها العملي يبقى محدودًا. هذه الظاهرة ليست جديدة، إذ اعتدنا أن نرى إجراءات مشابهة في أوروبا والولايات المتحدة، مثل إعلان تجميد أموال يحيى السنوار أو قيادات فلسطينية أخرى، رغم أن الواقع المالي يشي بعدم امتلاك هؤلاء حسابات مصرفية أو ممتلكات يمكن الوصول إليها بسهولة في النظام المالي الغربي. من هنا، تتكشف وظيفة هذه القرارات: ليست مجرد تجميد أصول، بل رسائل سياسية وإعلامية تخدم أهدافًا أوسع.

البُعد القانوني – إلزام دون أثر كبير

إعلان أنقرة يحمل صفة الإلزام داخل تركيا، فهو مرسوم رئاسي منشور رسميًا، ما يجعله إجراءً قانونيًا نافذًا. لكن إذا انتقلنا إلى الواقع العملي، نجد أن إيران لا تضع أصولًا استراتيجية ضخمة باسمها في تركيا يمكن أن تطالها يد التجميد بسهولة. أغلب التبادلات بين البلدين مرتبطة بالتجارة المباشرة في الغاز والنفط والسلع، أو تتم عبر قنوات مالية غير معلنة.

الوضع ذاته نراه في الغرب عند الحديث عن تجميد أصول شخصيات مثل السنوار: القرار نافذ قانونيًا، لكن فعاليته المالية محدودة لأن هؤلاء لا يعتمدون على النظام المصرفي الأوروبي أو الأمريكي أصلًا.

البُعد السياسي – رسائل مزدوجة

  • تركيا: بخطوتها هذه، تبعث برسالة للغرب مفادها أنها ليست خارجة عن التزامات النظام الدولي، وأنها قادرة على الانضباط إذا اقتضت مصالحها ذلك. في الوقت نفسه، تقول لإيران إن بيدها أوراق ضغط يمكن استخدامها إذا تصاعد التوتر في ملفات إقليمية مثل سوريا والعراق والحدود المشتركة.

  • الغرب: حين يعلن عن تجميد أموال السنوار أو قادة المقاومة الفلسطينية، فهو يوجّه رسالة للرأي العام الداخلي بأنه يتعامل بجدية مع ما يصفه بـ"التهديدات". لكنه يعلم مسبقًا أن الأثر المالي محدود للغاية، وأن الهدف الأساسي هو إنتاج صورة سياسية وإعلامية أكثر من تحقيق نتيجة عملية.

لعبة التوازن التركية

أنقرة تتحرك دائمًا في هامش حساس بين الشرق والغرب. فهي من جهة تستفيد من التجارة مع إيران، ومن جهة أخرى تسعى لإثبات التزامها بالنظام الدولي حفاظًا على علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تجميد الأصول الإيرانية، بهذا المعنى، لا يُقصد به إحداث ضرر اقتصادي لإيران بقدر ما يُقصد به تأكيد قدرة تركيا على التكيّف مع التوازنات الإقليمية والدولية.

المقارنة مع تجميد أموال السنوار

إعلان أوروبا عن تجميد أموال يحيى السنوار يوضح البعد الرمزي لهذه الإجراءات. السنوار، المعروف بدوره الميداني والسياسي في غزة، ليس شخصية مالية مرتبطة بحسابات في بنوك أوروبية، وبالتالي يصبح الإعلان أقرب إلى استعراض سياسي.

هذا الاستعراض يخدم غايتين: إرضاء الداخل الأوروبي الذي يطالب بمواقف حازمة، وإرسال رسالة للخصوم بأن الغرب يملك أدوات ضغط قانونية وإعلامية. لكن عمليًا، لا يتجاوز أثر القرار حدود الرمز، تمامًا كما في الحالة التركية مع إيران.

السيناريوهات المحتملة

  1. تصعيد إعلامي فقط: يظل القرار في دائرة الخطاب الإعلامي والسياسي دون انعكاس حقيقي على العلاقات التركية–الإيرانية.
  2. ورقة تفاوض: قد تستخدم أنقرة القرار كورقة ضغط في المفاوضات مع طهران، خصوصًا في الملفات الأمنية والإقليمية.
  3. رد إيراني محسوب: من المتوقع أن تتعامل طهران مع الخطوة ببرود، أو ترد عبر القنوات الدبلوماسية دون الدخول في مواجهة مباشرة.
  4. تقارب تركي–غربي مرحلي: يمكن لأنقرة أن توظف القرار لتعزيز موقعها التفاوضي مع واشنطن وبروكسل، وإظهار نفسها شريكًا منضبطًا.

الخلاصة

ما بين تجميد الأصول الإيرانية في تركيا و إعلان أوروبا تجميد أموال السنوار تتكشف الطبيعة المزدوجة لهذه القرارات: فهي إجراءات قانونية نافذة محليًا لكنها محدودة الأثر ماليًا واقتصاديًا. أهميتها تكمن في كونها أدوات خطابية تُستخدم في سياق معركة الصورة والشرعية، أكثر مما هي عقوبات فعلية قادرة على تغيير موازين القوة.

تركيا، كما الغرب، تستعمل هذه الورقة لإدارة التوازنات السياسية وتوجيه الرسائل، في عالم أصبح فيه القرار القانوني جزءًا من المسرح الإعلامي لا يقل أهمية عن الفعل العسكري أو الدبلوماسي.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.