
من الهيمنة الأخلاقية إلى الهيمنة الدفاعية
خلال التسعينات، كانت الولايات المتحدة تمارس ما يمكن تسميته بـ"الهيمنة الأخلاقية" — قيادة العالم تحت لافتة الديمقراطية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق. كانت تقدم نفسها بوصفها النموذج الذي يجب على الجميع أن يحتذي به. لكن هذا الخطاب فقد جاذبيته مع انكشاف تناقضاته: غزو العراق، معتقل غوانتنامو، دعم الانقلابات، والتدخلات الانتقائية باسم الحرية. منذ ذلك الحين، تراجعت أمريكا من موقع “المعلّم الأخلاقي” إلى موقع “المدير الأمني” للعالم. لم تعد تصدر القيم، بل تحاول ضبط الفوضى الناتجة عن فشلها في تصديرها. صارت الهيمنة الأمريكية دفاعية، تُمارسها واشنطن بقلق دائم من فقدان السيطرة أكثر مما تمارسها بثقة القائد.
الاقتصاد الأمريكي: تفوق بالأرقام لا بالقدرة
يُقال إن الاقتصاد الأمريكي ما زال الأكبر عالميًا، لكن هذا التفوق أصبح رقميًا أكثر منه فعليًا. فالإنتاج الحقيقي انتقل إلى آسيا، والتكنولوجيا لم تعد حكرًا على وادي السيليكون، بينما يعتمد الاقتصاد الأمريكي على الديون والاستهلاك المفرط. أصبح الدولار هو السلاح الرئيسي بدل الصناعة أو الإبداع. غير أن هذا السلاح ذاته يفقد فعاليته تدريجيًا، مع توسع التبادلات بعملات محلية في تكتلات مثل بريكس وآسيان، وتنامي الدعوات لإنهاء احتكار العملة الأمريكية للتجارة العالمية. لم تعد واشنطن تصنع التفوق بل تدير إرثه القديم، وتعتمد على قوة المؤسسات المالية الدولية كأذرع ضغط أكثر من اعتمادها على القواعد الإنتاجية داخلها.
من العولمة إلى التكتلات
العولمة التي روّجت لها أمريكا طوال عقود كانت في جوهرها مشروعًا لتعميم نمطها الاقتصادي والسياسي على العالم. لكنها اليوم تواجه نقيضها: تشكّل تكتلات إقليمية جديدة، من منظمة شنغهاي إلى بريكس بلس، تسعى لبناء استقلال استراتيجي عن الغرب. فالعالم لم يعد يبحث عن قائد بل عن توازن. لم تعد واشنطن تمتلك القدرة على فرض إملاءاتها كما كانت تفعل مع الدول النامية في التسعينات. أصبح النفوذ موزعًا، والمجال الدولي يتفتت إلى أقاليم متنافسة بدل النظام الواحد ذي المركز الأمريكي. حتى في أوروبا، الحليف التقليدي، تتزايد الأصوات التي ترى في الارتباط الوثيق بواشنطن عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا.
من صناعة الأحداث إلى إدارة الأزمات
الفرق بين القوة الصاعدة والقوة المترنحة هو من يُملي الإيقاع على العالم. كانت أمريكا تصنع الإيقاع؛ اليوم هي فقط تلاحقه. من أوكرانيا إلى تايوان، ومن غزة إلى فنزويلا، تتصرف واشنطن وفق منطق “الإطفائي الدولي” الذي يتدخل بعد اشتعال الحريق لا قبل وقوعه. سياساتها لم تعد تصنع المستقبل بل تحاول تأجيل الانفجار. حتى تحالفاتها الدفاعية الجديدة — مثل AUKUS وQUAD — ليست مشروعات قيادة بقدر ما هي أدوات احتواء استراتيجي لخصوم صاعدين، وعلى رأسهم الصين وروسيا.
أزمة الشرعية الأخلاقية في المركز الغربي
كانت قوة أمريكا الحقيقية في قدرتها على إقناع الآخرين بأنها تمثل “الخير العالمي”. اليوم لم يعد أحد يصدق ذلك الخطاب. ازدواجية المعايير في قضايا الحرب والسلام وحقوق الإنسان جعلت خطاب واشنطن فاقدًا لأي مصداقية. كيف يمكن أن تبرر الدفاع عن أوكرانيا بينما تصمت على إبادة في غزة؟ كيف تدعو إلى حرية الشعوب وهي تدعم أنظمة قمعية حليفة؟ هذا التناقض كشف أن الهيمنة الأمريكية لم تكن يومًا مشروع قيم، بل مشروع مصلحة مغلف بلغة أخلاقية. الآن انكشف الغلاف، ولم يبقَ سوى جوهر القوة العارية.
الحلفاء في حيرة: بين الاعتماد والتمرد
حتى الحلفاء التاريخيون بدأوا يدركون أن التبعية لواشنطن لم تعد تضمن الأمن ولا الازدهار. أوروبا دفعت ثمن العقوبات على روسيا أكثر مما دفعته موسكو نفسها. اليابان وكوريا الجنوبية تعيشان توترًا بين الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية والرغبة في استقلال القرار. دول الخليج تعيد تنويع تحالفاتها، والصين تمد شبكات نفوذها في إفريقيا وأميركا اللاتينية دون حاجة لحروب أو قواعد عسكرية. العالم يتغيّر بهدوء، بينما واشنطن ما زالت تتحدث بلغة التسعينات.
السلاح الأخير: الإعلام والتكنولوجيا
في ظل تراجع النفوذ العسكري والاقتصادي، تراهن أمريكا على أدواتها الرمزية: الإعلام، الثقافة، وشركات التقنية العملاقة. لكن حتى هذه الساحة لم تعد آمنة، مع صعود بدائل إعلامية آسيوية وروسية، ومع دخول الصين والهند والشرق الأوسط مجال الذكاء الاصطناعي والتقنية الرقمية بقوة. تفقد واشنطن تدريجيًا احتكارها لرواية العالم، أي قدرتها على تشكيل الوعي الدولي، وهو أخطر أنواع التراجع لأنها تفقد السيطرة على الخيال الجمعي للبشرية.
أمريكا الداخل: إمبراطورية منهكة
التصدعات الداخلية لا تقل خطورة عن الخارجية. الانقسام السياسي، تصاعد التيارات الشعبوية، العنصرية المتجددة، والديون الفيدرالية المتضخمة، كلها مؤشرات على أن القوة العظمى تعيش أزمة بنيوية في داخلها. لم تعد أمريكا “البلد النموذج” بل “النظام المهدد بالانقسام”. العالم يرى ذلك بوضوح، ويعيد تقييم اعتماده على قوة فقدت ثقتها بنفسها.
خاتمة
لم تسقط أمريكا كما سقط الاتحاد السوفيتي، لكنها فقدت المعنى الذي جعلها تقود العالم. تحولت من قوة مُلهمة إلى قوة قلقة، ومن صانعة للنظام إلى حارسة لحطامه. لم تعد تمتلك مشروعية القيادة ولا القدرة على فرضها، فالعالم الجديد لا يبحث عن زعيم، بل عن توازن بين أقطاب متنافسة. في هذا العالم، ستظل الولايات المتحدة قوية، لكنها لن تكون مركز الكون. إنها بداية عصر ما بعد الهيمنة الأمريكية — عصر بلا قائد، تحكمه الضرورة لا المبادئ، وتُحدّد ملامحه القوى الصاعدة لا الوصاية القديمة.