انهيار الهيمنة الأمريكية الناعمة: من صناعة الأحداث إلى إدارة الفوضى

لم تعد الولايات المتحدة اليوم تتصرّف كقوةٍ تقود العالم، بل كقوةٍ تسعى إلى منع انهيار النظام الذي صنعته هي نفسها. فمنذ نهاية الحرب الباردة، قدّمت واشنطن نفسها بوصفها “العقل المنظّم للعالم”، تُصدر المعايير وتفرض القواعد وتحتكر شرعية القرار. غير أن هذا الدور لم يعد قائمًا إلا في الخطاب الرسمي. أما في الواقع، فإن القوة الأمريكية تعيش أخطر مراحل التحوّل منذ نشأة النظام الدولي الحديث، مرحلة الانتقال من الهيمنة الناعمة إلى الإدارة القسرية للأزمات.

من “القيم الكونية” إلى لغة الحصار

خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، بنت الولايات المتحدة هيمنتها على خطابٍ أخلاقي يربط بين الليبرالية السياسية والحرية الاقتصادية و”القيم الكونية”. لكن هذا الخطاب بدأ يتآكل منذ أن انكشف التناقض بين المبادئ المعلنة والممارسات الفعلية. فالغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، والتدخلات العسكرية في الشرق الأوسط، وانهيار الثقة بحياد المؤسسات الدولية، كلها دفعت الشعوب إلى إدراك أن “القيم” ليست سوى أداة لفرض إرادة القوة.

اليوم، لم يعد الخطاب الأمريكي يدور حول نشر الحرية، بل حول حماية النظام الدولي من الانهيار. تحوّل الشعار من “العالم الحر” إلى “النظام القائم على القواعد”، أي قواعد صاغتها واشنطن وتخشى فقدانها. وبذلك انتقلت أمريكا من مرحلة “الهيمنة الإقناعية” إلى مرحلة “الهيمنة التحصينية”، أي الدفاع عن الامتيازات القديمة تحت ستار من القوانين الانتقائية.

الاقتصاد الأمريكي بين النفوذ المالي والانكماش البنيوي

رغم أن الولايات المتحدة ما تزال تمتلك أكبر اقتصاد في العالم، إلا أن بنيته الداخلية أصبحت هشّة. فالقوة الاقتصادية لم تعد قائمة على الإنتاج الفعلي، بل على التحكم المالي والتقني. تعتمد أمريكا اليوم على الدولار كسلاحٍ سياسي أكثر من كونه عملة تجارية، وعلى العقوبات أكثر من الاعتماد المتبادل. لكن هذا السلاح بدأ يفقد تأثيره مع اتساع ظاهرة “التحوّط من الدولار” وتزايد التعامل بالعملات المحلية بين الدول الصاعدة مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل.

أما الصناعة الأمريكية، فقد هاجرت إلى آسيا منذ التسعينات، بينما تضخّمت القطاعات المالية والتكنولوجية على حساب الاقتصاد الحقيقي. هذه التركيبة جعلت القوة الأمريكية أكثر هشاشة أمام الصدمات، وأقل قدرة على تحمّل الأزمات الطويلة. لم تعد الولايات المتحدة تنتج التفوّق، بل تدير أرباحه المتبقية.

نهاية العولمة الأمريكية وصعود التكتلات المستقلة

العولمة التي بشّرت بها واشنطن كانت في جوهرها نظامًا لتوسيع المجال الحيوي الأمريكي عبر الأسواق المفتوحة والمؤسسات الدولية. لكنها تحوّلت الآن إلى أداة ارتدت على أصحابها. فمع توسّع الصين وروسيا ودول الجنوب في بناء شبكات اقتصادية موازية، تراجع النفوذ الأمريكي من كونه شبكة عالمية إلى مجرد قطبٍ بين أقطاب. ظهرت تكتلات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون والتحالفات الإفريقية والآسيوية الجديدة، وكلها تسعى إلى تحييد المركز الأمريكي من معادلات التنمية والتجارة والطاقة.

العالم لم يعد “أمريكيًا”، بل متعدّد المحاور، تُدار فيه المصالح عبر موازين القوى لا عبر الشرعية الأيديولوجية. فالدول لم تعد ترى في واشنطن حليفًا بالضرورة، بل طرفًا ينبغي موازنته. هذه هي نقطة التحوّل الحقيقية في النظام العالمي الجديد: خروج أمريكا من موقع المرجع إلى موقع الطرف.

من صناعة الأحداث إلى إدارة الفوضى

الولايات المتحدة التي كانت تصنع الأحداث في العالم، باتت اليوم تلاحقها. ففي أوكرانيا، حاولت احتواء الصعود الروسي لكنها وجدت نفسها في حرب استنزاف لا تملك مخرجًا منها. وفي الشرق الأوسط، فشلت في فرض تسوية نهائية، وانكشفت حدود نفوذها أمام تراجع الردع التقليدي. أما في آسيا، فإن واشنطن لم تعد قادرة على منع الصين من إعادة تشكيل المحيطين الهادئ والهندي وفق مصالحها الخاصة.

السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت إدارة أزمات متتالية، لا تخطيطًا استراتيجيًا. التحالفات الجديدة مثل AUKUS وQUAD ليست مشاريع بناء عالمي، بل محاولات لاحتواء الانكماش. كل ذلك يعكس تحوّل واشنطن من “الفاعل البنّاء” إلى “المدير القَلِق” لعالم لم يعد يخضع لمركز واحد.

القوة العسكرية: عبء التفوق

حتى التفوق العسكري الأمريكي الذي ظلّ لعقود الركيزة الأساسية للهيمنة، أصبح عبئًا أكثر منه ضمانًا. فتكاليف الانتشار العسكري والالتزامات عبر القواعد والحروب بالوكالة أصبحت تفوق العائد الاستراتيجي منها. لم تعد القوة الأمريكية تحقق الانتصارات، بل تؤجل الهزائم.
ومع صعود القدرات الروسية والصينية في مجالات الدفاع الجوي والصواريخ الدقيقة، لم يعد “الردع الأمريكي” مطلقًا كما كان. ومع أن واشنطن لا تزال تملك أكبر ترسانة في التاريخ، إلا أن فعاليتها السياسية تتراجع كل يوم مع تآكل الثقة في قراراتها الدولية.

أزمة الشرعية في قلب الغرب نفسه

الانهيار الأخلاقي للهيمنة الأمريكية لم يأت من الخارج فقط، بل من داخل “العائلة الغربية”. فقد بدأت أوروبا تعيد النظر في التبعية الكاملة لواشنطن، خاصة بعد أن تحوّل حلف الناتو من أداة دفاع مشترك إلى ذراعٍ أمريكية لتثبيت النفوذ. الأزمة الأوكرانية كشفت أن أوروبا تتحمّل التكاليف بينما تجني واشنطن الأرباح. هذا الشرخ داخل المعسكر الغربي يشير إلى أن الهيمنة الأمريكية تفقد شرعيتها حتى بين حلفائها، وأن الغرب لم يعد جبهة واحدة بل توازن هشّ داخل منظومة منهكة.

ما بعد الهيمنة: أمريكا كقوة صيانة

ما يجري اليوم ليس “سقوطًا” لأمريكا بالمعنى الكلاسيكي، بل تحوّل في طبيعة وظيفتها داخل النظام العالمي. لم تعد دولة تقود، بل دولة تصون ما تبقّى من نظامٍ يترنّح. إنها تمسك بالعالم عبر مؤسساتٍ فقدت هيبتها، وتدير تحالفاتٍ فقدت تماسكها، وتخاطب جمهورًا لم يعد يصدقها.
لقد انتهى عصر “الهيمنة الناعمة” حين تحوّل الخطاب الأمريكي من إقناع الآخرين إلى إقناع الذات بأنها ما زالت قائدة العالم.

الخاتمة

القوة الأمريكية اليوم ليست مشروعًا للمستقبل، بل ظلاً لماضٍ يحاول البقاء. إن العالم يدخل مرحلة ما بعد الأحادية، حيث لم يعد النفوذ يُقاس بالقدرة على فرض النظام، بل بالقدرة على البقاء وسط الفوضى.
وإذا كانت واشنطن قد نجحت في فرض العولمة كدينٍ جديد في التسعينات، فإنها اليوم تواجه ارتدادًا كونيًا لتلك العقيدة نفسها. فالهيمنة التي وعدت بالاستقرار ولّدت اضطرابًا، والنظام الذي وُصف بالعالمي انكشف كمجرد نظام أمريكي في ثياب العالم.

القرن الحادي والعشرون لن يكون قرنًا أمريكيًا، بل قرنًا تتعلّم فيه أمريكا كيف تعيش في عالمٍ لم يعد يحتاج زعيمًا، بل يحتاج توازنًا.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.