
لكنّ المفارقة تبلغ ذروتها حين نكتشف أن ثلاثة من رؤساء إسرائيل — الدولة القائمة على الاحتلال والحروب المستمرة — قد نالوا هذه الجائزة. فكيف يُكافأ من يملك ترسانةً نووية ويحتل أرضًا، بجائزةٍ تُمنح باسم السلام؟
الجائزة التي تبرّر الحرب
منذ السبعينيات، بدأت لجنة نوبل تفقد حيادها الأخلاقي شيئًا فشيئًا، حين تحوّلت من تكريم صانعي السلام الفعليين إلى تكريسٍ لمعادلات سياسية تخدم “السلام الغربي” — أي السلام المشروط، القائم على إخضاع الآخر.
فبدل أن تُمنح لمن يُنهي الحروب، باتت تُمنح لمن يُوقّع على اتفاقٍ يُجمّد الحرب مؤقتًا ليُرسّخ موازين القوى.
وهكذا نالت إسرائيل، الدولة التي لم تعرف يومًا نهاية حربٍ واحدة، ثلاث جوائز باسم “السلام”.
مناحيم بيغن: جائزة على تطبيعٍ لا على سلام
عام 1978، نال مناحيم بيغن جائزة نوبل للسلام مع الرئيس المصري أنور السادات، بعد توقيعهما اتفاقية كامب ديفيد.
لكن بيغن لم يكن “صانع سلام”، بل أحد مؤسسي منظمة “الإرغون” الصهيونية المسلحة، والمسؤول عن مجازر ضد الفلسطينيين في الأربعينيات.
جاءت الجائزة في لحظةٍ كان فيها الغرب بحاجةٍ إلى “كسر الطوق العربي” حول إسرائيل، لا إلى إقرار سلامٍ حقيقي. فكان السلام في جوهره صفقة أمنية تفصل مصر عن عمقها العربي، وتمنح إسرائيل شرعية سياسية كانت تفتقر إليها.
وهكذا، مُنح بيغن الجائزة لا لأنه أنهى حربًا، بل لأنه أنهى جبهةً عربية كانت تزعج واشنطن.
رابين وبيريز: “سلام” أوسلو على الورق
بعد ستة عشر عامًا، تكرّر المشهد مع إسحاق رابين وشمعون بيريز، اللذين تقاسما الجائزة عام 1994 مع ياسر عرفات بعد توقيع اتفاق أوسلو.
أرادت اللجنة أن تُظهر الاتفاق كـ “نهايةٍ للصراع”، بينما كان في حقيقته تحويلًا للاحتلال إلى إدارةٍ من الباطن.
رابين وبيريز لم يقدما تنازلًا سياسيًا حقيقيًا، بل أعادا صياغة السيطرة العسكرية بأدواتٍ مدنية. ومنذ أوسلو، تضاعف الاستيطان وجرى تقطيع الجغرافيا الفلسطينية إلى كانتوناتٍ مغلقة تحت غطاء “الحكم الذاتي”.
كانت الجائزة إذن وسامًا دعائيًا لاتفاقٍ هشّ، أراد الغرب أن يقدمه للعالم كـ “معجزة سلام”، بينما كان الواقع ينزف دمًا وحصارًا وانقسامًا.
جائزة السلام كأداة لإعادة تعريف الأخلاق
تكشف هذه السوابق أن لجنة نوبل لا تُكافئ الأخلاق، بل تعيد تعريفها وفق مصالح القوة.
فحين يُمنح الاحتلال جائزة على “شجاعته في السعي للسلام”، فهذا يعني أن المعايير لم تعد إنسانية، بل سياسية — وأن الجائزة لم تعد تُمنح لمن أوقف الحرب، بل لمن قبل بشروط المنتصرين.
منذ بيغن إلى بيريز، كانت نوبل تُكافئ من يثبت أن “السلام” يمكن أن يكون شكلًا آخر من أشكال السيطرة، وأن القوة حين تبتسم تُمنح وسامًا ذهبيًا.
من تكفيرٍ عن الديناميت إلى تلميعٍ للدبابات
كان نوبل قد كتب وصيته ليغسل يديه من إرث الدم الذي خلّفه الديناميت.
لكن التاريخ سار في الاتجاه المعاكس: الجائزة التي وُلدت من ندمٍ على أداة قتل، صارت تُمنح اليوم لمن يُتقن استخدام أدوات القتل ذاتها تحت راية “الدفاع عن النفس”.
لقد تحولت نوبل للسلام إلى غطاء ناعم للحروب النظيفة، وإلى وسيلة لإضفاء شرعية أخلاقية على عنفٍ سياسي مغلّفٍ بالديبلوماسية.
خاتمة: سقوط المعنى في حضرة القوة
حين يُتوَّج ثلاثة من قادة إسرائيل بجائزة نوبل للسلام، فالمشكلة ليست في اللجنة وحدها، بل في النظام الأخلاقي العالمي الذي جعل من القوة معيارًا للحق، ومن السيطرة وسيلةً للسلام.
فالجائزة لم تعد تسأل: من أنهى الحرب؟ بل تسأل: من يخدم سردية الغرب عن السلام؟
وبهذا، تحوّل وسام نوبل من ضميرٍ أخلاقي للإنسانية إلى وثيقةٍ رمزية تبرّر النظام الدولي القائم، وتُقنع الشعوب بأن الاحتلال قد يكون “إنسانيًا”، إذا صيغت مقدماته بلغة السلام.
- منح عام 1978: مناحيم بيغن – رئيس وزراء إسرائيل، تقاسم الجائزة مع أنور السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد.
- منح عام 1994: إسحاق رابين – رئيس الوزراء، وشمعون بيريز – وزير الخارجية، تقاسما الجائزة مع ياسر عرفات عن اتفاق أوسلو.
- ثلاثة رؤساء إسرائيليين، ثلاث اتفاقيات “سلام”.. وجائزة واحدة تتكرر لتكافئ المشروع ذاته.