
لقد كان الحلم الأوروبي — أوروبا ذات السيادة والقرار المشترك — أحد أبرز مشاريع ما بعد الحرب الباردة، لكن هذا المشروع يتآكل اليوم تحت ضغط الجغرافيا والسياسة والخوف من الفوضى. وبين شرقٍ يتبع واشنطن بلا قيد، وغربٍ يحاول الحفاظ على ما تبقّى من استقلاله، يقف الاتحاد الأوروبي على مفترق طرق وجودي يهدد بنيته من الداخل.
إرث الحرب الباردة الذي لم ينتهِ بعد
من الناحية النظرية، انتهت الحرب الباردة بانتصار الغرب. لكن من الناحية الجيوسياسية، لم تنتهِ أبدًا في أوروبا. فالقارة التي قُسّمت بين الناتو وحلف وارسو لم تتحرر من منطق المعسكرين، بل أعادت إنتاجه في صورة جديدة.
الولايات المتحدة لم تغادر أوروبا بعد سقوط السوفييت، بل كرّست وجودها العسكري والسياسي فيها بوصفه شرطًا لاستقرارها. فبدل أن تكون واشنطن ضامنًا لأمن أوروبا، أصبحت المتحكم في تعريفه.
هكذا نشأت علاقة تبعية بنيوية، حيث تُصاغ السياسة الخارجية الأوروبية في واشنطن أكثر مما تُصاغ في بروكسل أو باريس أو برلين.
الناتو: الحاكم الفعلي للقرار الأوروبي
منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي، كان هناك سؤال معلّق: من يملك القرار الاستراتيجي في القارة؟ الاتحاد أم الحلف؟
الإجابة اليوم واضحة أكثر من أي وقت مضى. فمع توسع الناتو شرقًا واندلاع الحرب في أوكرانيا، لم يعد الاتحاد الأوروبي سوى ذراعٍ مدنية لمشروعٍ عسكري أمريكي.
القرارات المصيرية — من العقوبات الاقتصادية إلى سياسات الطاقة والدفاع — تمر عبر بوابة الأطلسي. لقد تحوّل الناتو من تحالفٍ دفاعي إلى أداة ضبط سياسي تفرض الإيقاع الأمريكي على أوروبا.
حتى الدول الكبرى كألمانيا وفرنسا لم تعد قادرة على تبنّي سياسة خارجية مستقلة. فكل محاولة للتمايز تُواجَه بضغطٍ إعلامي واقتصادي، أو تُصوَّر كخيانة للوحدة الغربية.
الانقسام الأوروبي بين الشرق والغرب
داخل الاتحاد نفسه، تبرز اليوم قارة مزدوجة: أوروبا الغربية التي ما زالت تؤمن بفكرة “السيادة الأوروبية”، وأوروبا الشرقية التي ترى في واشنطن الضامن الوحيد لأمنها.
بولندا ودول البلطيق أصبحت الناطق الرسمي باسم الأطلسي داخل الاتحاد، تدفع نحو مزيد من التصعيد مع روسيا وتربط أمنها العضوي بحضور أمريكي دائم.
أما فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فتتوجس من هذا التوجه الذي يحوّل أوروبا إلى ساحة حربٍ بالوكالة، ويفقدها أي فرصة للعب دورٍ عالمي مستقل.
إن هذا الانقسام ليس مجرد اختلاف في الرأي، بل شرخ جيوسياسي يعيد القارة إلى خطوط التماس القديمة التي ظنّت أنها تجاوزتها.
التبعية الاستراتيجية كعقيدة سياسية
المفارقة أن أوروبا التي روّجت طويلاً لفكرة “الاستقلال الاستراتيجي”، أصبحت اليوم أسيرة لمنظومة أمنية لا تملك مفاتيحها.
فبدل بناء دفاعٍ أوروبي موحد، فضّل الاتحاد أن يظلّ تحت المظلّة الأمريكية، بحجة أن ذلك “أكثر أمانًا وأقل كلفة”.
لكن هذا الخيار جعل القرار الأوروبي مرتهنًا بميزان المصالح الأمريكية: متى تتحرك، ومتى تصمت، ومن تُعاقب، ومن تُسلّح.
في العمق، لا تُدار السياسة الأوروبية على أساس مصالح القارة، بل على أساس موقعها في الاستراتيجية الأمريكية الأوسع لاحتواء روسيا والصين.
وهكذا تحوّل الاتحاد من مشروع تكاملٍ سيادي إلى منظومة إدارية تُدار من الخارج، بينما يتآكل داخله الحسّ بالهوية المشتركة.
فرنسا وألمانيا بين الواقعية والمأزق
حاولت باريس وبرلين في السنوات الأخيرة إعادة إحياء فكرة “الاستقلال الأوروبي”، لكنهما اصطدمتا بواقعٍ لا يمكن تجاوزه:
ففرنسا، رغم طموحها التاريخي، عاجزة عن مواجهة الإرادة الأمريكية منفردة، وألمانيا غارقة في شبكة الاعتماد الأمني والاقتصادي التي تجعلها قوة اقتصادية دون سيادة سياسية.
كل محاولة أوروبية للخروج من العباءة الأطلسية تواجه بتذكير أمريكي قاسٍ: أن الدفاع عن أوروبا لا يزال يُموّل ويُدار من واشنطن.
وكلما ازداد اعتماد الاتحاد على الناتو، تقلّصت قدرته على اتخاذ قرار مستقل. إن هذا هو المأزق الحقيقي: لا أحد في أوروبا يجرؤ على الاعتراف بأن القارة فقدت الاستقلال الجيوسياسي الذي ادّعته بعد الحرب الباردة.
أوروبا كجسرٍ استراتيجي لا كقطب عالمي
في النظام الدولي الجديد الذي يتجه نحو التعددية القطبية، كان يُفترض أن تشكّل أوروبا القطب الثالث بين أمريكا وروسيا والصين. لكن بدلاً من ذلك، أصبحت جسرًا أمريكيًا يمتد من الأطلسي إلى حدود روسيا.
تتعامل واشنطن مع الاتحاد الأوروبي كأداة ضبطٍ جغرافي، لا كشريكٍ استراتيجي متكافئ.
هذا الموقع الوسيط جعل القارة تفقد وزنها الدولي، فهي لا تملك بعد الآن مشروعًا خاصًا، ولا خطابًا عالميًا متمايزًا، ولا حتى قدرة على صياغة مصالحها بمعزل عن حلفائها.
لقد تحوّلت أوروبا من “الفاعل التاريخي” إلى “المجال الجيوسياسي”، من صانعةٍ للخرائط إلى ساحةٍ تُرسم عليها الخرائط.
الخاتمة
الاتحاد الأوروبي اليوم يقف أمام معادلة مستحيلة: كيف يمكنه أن يتحدث عن “سيادة استراتيجية” بينما يربط أمنه بجيشٍ أجنبي؟ وكيف يدعو إلى “سلامٍ عالمي” وهو يشارك في كل حربٍ تفرضها واشنطن؟
ما يحدث ليس مجرد أزمة سياسية، بل نهاية لفكرة أوروبا كقوة مستقلة.
لقد نجحت الولايات المتحدة في تحويل القارة إلى جزء من بنيتها الجيوسياسية، حتى بات من الصعب التمييز بين الناتو والاتحاد الأوروبي.
لكن هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد. فكل تبعية تُنتج في النهاية وعيًا مضادًا، وكل احتواءٍ يولّد رغبة في التحرر.
ربما لا تزال أوروبا اليوم تتحدث بلسان واشنطن، لكن التاريخ يعلمنا أن القارات التي تنسى نفسها تُجبَر يومًا على استعادتها.