
الحواس كمنطقة السلطة الجديدة
في الماضي، كانت السلطة تُمارس بالعنف المادي أو بالإكراه الرمزي. أما اليوم، فقد أدركت أن أكثر وسائل السيطرة فاعلية هي تلك التي تتسلل إلى اللاوعي الحسي. فبدل أن تقول لك ماذا تفعل، تجعلك تحبّ ما تريد منك أن تفعله.
إنها سلطة تتكلم بلغة “الذوق”، لا بلغة القانون.
ومن خلال الإعلانات، والموسيقى، وتصميم الفضاءات، وصناعة الأطعمة، يُعاد تشكيل الذوق الجمعي بطريقة تجعل الرغبات متوافقة مع مصالح السوق، لا مع حاجات الإنسان.
من الذوق الطبيعي إلى الذوق الموجّه
الذوق في جوهره تجربة فطرية تقوم على علاقة مباشرة بين الذات والعالم. لكن السوق المعولم لم يحتمل هذه العشوائية الجميلة. فبدأ بإعادة تعريف “ما هو جميل” و“ما هو لذيذ” و“ما هو أنيق”، إلى أن أصبحت الحواس نفسها خاضعة لثقافة معيارية واحدة.
إننا لا نختار ما نحب، بل نُحب ما يُعرض علينا بكثافة، وما تُكرره الصور من حولنا حتى نراه طبيعيًا.
وهكذا يتحول التكرار إلى “برمجة”، والاعتياد إلى “قناعة”.
فالقهوة المرّة تُصبح أنيقة لأنها ارتبطت بصورة “الناجحين”، والعطور الثقيلة تُصبح أنثوية لأنها طُرحت بهذه الصيغة، والملابس المتشابهة تُصبح دليلاً على الذوق الرفيع لا على انعدام الفردانية.
الاقتصاد الحسي: حين يصبح الذوق سوقًا
ما يُعرف اليوم بـ“الاقتصاد الحسي” ليس سوى الوجه الناعم للرأسمالية المتقدمة.
إنه لا يبيع منتجًا، بل يبيع إحساسًا مبرمجًا مسبقًا.
يبيعك “الطعم الصحيح”، “الرائحة الراقية”، “الملمس المميز” — وكلها قيم لا تُختبر فعليًا، بل تُستقبل كأوامر ثقافية.
كل ذلك يتم من خلال هندسة نفسية دقيقة تجعل اللذة ذات وظيفة اقتصادية. فحين تضبط ذوق الفرد، لا تعود بحاجة إلى قمعه؛ هو من سيفعل ما تريد لأن حواسه نفسها أصبحت تخدمك.
الذوق كطاعة ناعمة
الطاعة الناعمة هي أخطر أنواع السيطرة لأنها تُمارَس باسم الحرية.
فالفرد يظنّ أنه يختار قهوته، أو عطره، أو موسيقاه، بينما هو في الواقع يكرر ذوقًا تم تلقينه جماعيًا.
لقد تحوّلت “الاختيارات الشخصية” إلى كود جماعي مغلف بلغة الفردانية.
فكلما شعر الإنسان بأنه يعبّر عن نفسه أكثر، كان في الحقيقة يعبّر عمّا تمت برمجته فيه بعمق أكبر.
إنها آلية ضبط جديدة لا تُقاس بالسلطة السياسية، بل بالامتثال الجمالي؛ إذ من لا يحب ما يُطلب منه أن يحبّه، يبدو “غريب الذوق”، “متخلّفًا”، “خارج الموضة”.
صناعة الانسجام: حين يُقمع الاختلاف بالجمال
حتى “الاختلاف” نفسه أصبح جزءًا من البضاعة.
تُقدَّم لك نسخ جاهزة من “الغرابة” و“التمرد” و“الأسلوب الخاص”، لكن ضمن حدود مسموح بها مسبقًا.
إنها حرية موجَّهة.
يُمنحك السوق خيار أن تكون مختلفًا، شرط أن تشتري هذا الاختلاف منه.
وبذلك تُختزل الفردانية إلى لون جديد في قائمة الخيارات، بينما يظل النظام هو ذاته الذي يحدد لك حتى طريقة التمرد.
الإعلانات كمدارس حسية
لم تعد الإعلانات مجرد ترويج تجاري، بل أصبحت مؤسسات لتربية الحواس.
إنها تُدرّبك بصريًا وسمعيًا على أن ترى الجمال في ما يُعرض عليك.
صورة واحدة مكررة آلاف المرات كفيلة بأن تغيّر ذوق شعب بأكمله.
في النهاية، لا يبقى الذوق تعبيرًا عن التجربة، بل عن الولاء البصري: نحب ما نراه كثيرًا لأننا رأيناه كثيرًا، لا لأنه يستحق الحب.
الإنسان المُعاد تشكيله
تحت هذه المنظومة، لم يعد الإنسان مستهلكًا حرًا، بل كائنًا مبرمجًا ليتفاعل ضمن نطاق حسي محدد.
حتى انفعالاته الجمالية أصبحت متوقعة ومقننة.
فمن يجرّب طعمًا جديدًا لا بد أن يخضع لحكم الجماعة الذوقية التي تملي عليه إن كان هذا الطعم “جيدًا” أو “غريبًا”.
لقد أصبح الذوق الجماعي شكلًا من أشكال المراقبة الاجتماعية، يحرس الحدود بين المقبول والمرفوض، الجميل والمبتذل، دون أن يتدخل أحد علنًا.
مقاومة الذوق المبرمج
في مواجهة هذه الهيمنة، لا تعود المقاومة فعلاً سياسيًا مباشرًا، بل تحريرًا للحواس من أسر البرمجة.
أن تتذوق ما لم يُقدَّم لك، أن تجرّب ما لم يُعلن عنه، أن تُعيد النظر في علاقتك باللذة والجمال — هذه أفعال مقاومة رمزية لكنها جوهرية.
فالحرية تبدأ حين يُستعاد الذوق إلى مجاله الأصلي: مجال التجربة الذاتية الصادقة، لا مجال الإملاء الجماعي.
خاتمة
الذوق ليس تفصيلاً صغيرًا في حياة الإنسان، بل هو منطقة السيادة الأخيرة على الذات.
وحين تُخضع الحواس للسلطة، لم يعد هناك ما يُسمّى بـ“الاختيار الحقيقي”.
إن إعادة برمجة الذوق ليست قضية جمالية، بل قضية وعي.
فكل حاسة تُعاد صياغتها وفق منطق السوق هي خطوة أخرى نحو تحويل الإنسان إلى مستهلك مبرمج يطيع بمتعة، ويخضع وهو يظن أنه يختار.