الفقر بين الضرورة والنظام: متى يصبح الإفقار سياسة لا قدَرًا؟

يُقدَّم الفقر في الخطاب الاقتصادي العالمي كأنه قدرٌ طبيعيّ أو نتيجة حتمية لتفاوت الجهد والكفاءة. لكن حين نعيد تفكيك بنية النظام الاقتصادي والسياسي، نكتشف أن الفقر ليس ظاهرة عرضية، بل جزءٌ مبرمج من آلية الحكم الحديثة. فما يُسمّى "الضرورة الاقتصادية" التي تُبرّر بها الحكومات ضيق المعيشة ليست إلا قناعًا لسياسة أعمق: سياسة الإفقار المنظَّم، التي تضمن بقاء السلطة لا ازدهار المجتمع.

1. حين يتحوّل الفقر من نتيجة إلى أداة

في النظم الطبيعية، الفقر نتيجة ضعف الموارد أو قلّة الإنتاج.
أما في النظم السياسية الحديثة، فالفقر يُدار كأداة ضبط.
تُبقي الدولة مواطنيها في منطقة وسطى بين الحاجة والاكتفاء، بحيث لا يموتون جوعًا فيثورون، ولا يغتنون فيتحررون.
بهذا التوازن الدقيق، يصبح الخوف من الفقد أداة حكم أشد فاعلية من القمع المباشر.
فمن يخشى على لقمة عيشه لن يجرؤ على معارضة من يملك توزيعها.

2. اقتصاد الخضوع: حين تُدار المعيشة بالقطارة

ليست كل أزمة معيشية دليلاً على فشل اقتصادي، بل أحيانًا على نجاحٍ سياسي.
فالإفقار المقنَّن يُبقي الشعوب في حالة عمل دائم، ويُبعدها عن التفكير في الحقوق والمساءلة.
ولهذا نجد في كثير من الدول سياسات تُفرغ التعليم من محتواه النقدي، وتُرهق الطبقات الوسطى بالديون، وتُحوِّل الخدمات الأساسية إلى عبءٍ متزايد.
إنها عملية إعادة إنتاج للقلق، حتى يظل المواطن مشغولًا بمطاردة الخبز أكثر من مطاردة الحقيقة.

3. الفقر كشرط لاستمرار النظام الرأسمالي

النظام الرأسمالي، في جوهره، يحتاج إلى تفاوت طبقي دائم ليبقى حيًا.
فمن دون فقراء، لا وجود لعمالٍ يقبلون الأجور المتدنية،
ومن دون حاجة، لا سوق للاستهلاك المستمر،
ومن دون منافسةٍ على البقاء، لا معنى للنمو.
إنه نظامٌ يُعيد إنتاج الحاجة كي لا يتوقف.
ولذلك، حين يتحدث السياسيون عن "محاربة الفقر"، فإنهم في الواقع يتحدثون عن إدارته، لا عن القضاء عليه.

4. الضرورة المفتعلة: حين تتحوّل القوانين إلى قيود

الخطأ الأكبر أن نتصوّر أن "الضرورة الاقتصادية" قانون كالجاذبية.
الاقتصاد ليس علمًا طبيعيًا، بل نظامًا من العلاقات والاختيارات.
حين يُقال إن رفع الأسعار أو تخفيض الدعم "ضرورة"، يجب أن نسأل: ضرورة لمن؟
هل هي ضرورة لبقاء الحياة، أم لبقاء ميزانية الدولة المتخمة بالمصالح؟
كثير من هذه الضرورات مفتعلة، صُمّمت لتُبرّر استمرار الامتيازات الطبقية باسم الواقعية.

5. حين يصبح الإنسان وقودًا للآلة

في منطق السوق، الإنسان ليس غاية، بل أداة إنتاج واستهلاك.
كل ما يضمن بقاءه قادرًا على العمل مطلوب، وكل ما يمنحه استقلالًا مرفوض.
لهذا يُمدّ بالحياة بقدر ما يخدم النظام، لا بقدر ما يستحق إنسانيًا.
إنه شكلٌ حديث من العبودية المقنّعة، حيث لا تُقيَّد اليد بالسلاسل، بل يُقيَّد الوعي بالأجور.

6. البديل: اقتصاد الكرامة لا اقتصاد الحاجة

ليس المقصود أن تزول الفوارق تمامًا، فهذا ضد طبيعة الحياة،
لكن الهدف أن تتحوّل الفوارق من أداة إذلال إلى دافع إبداع.
الاقتصاد العادل لا يقوم على إفقار أحدٍ ليعمل الآخر، بل على تمكين الإنسان من أن يعمل لأنه يريد، لا لأنه مضطر.
حين يجد العامل معنى في عمله لا خوفًا من الجوع، يبدأ النظام الإنساني في التعافي.
وحين تُبنى السياسات على الكرامة لا على الحاجة، يصبح الإنتاج فعل حرية لا عبودية.

7. الخاتمة: الفقر كاختبار للنظام لا للإنسان

الفقر ليس قدرًا مقدّسًا ولا ضرورة اقتصادية مطلقة، بل مرآة تعكس بنية السلطة.
حين يُفقر النظامُ شعبه باسم "الإصلاح"، فهو في الحقيقة يُصلح أدوات طاعته لا حياته.
التمييز الحقيقي ليس بين غني وفقير، بل بين من يصنع الفقر ليستمر، ومن يعمل ليُنهيه بكرامة.
وهنا يتحدّد الفرق بين الدولة التي تخاف وعي شعبها، والدولة التي تستمد قوتها منه.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.