غزة: ركام ما بعد الحرب: وثيقة إدانة قبل أن يكون أنقاضًا

في لحظة صمت ما بعد العاصفة، ستظهر غزة لا كمدينة منكوبة فقط، بل كأرض مثقلة بجبل رمادي من الركام. ملايين الأطنان من الحجارة والحديد والأسمنت، تحمل ذاكرة القصف وملامح الضحايا، وتطرح سؤالاً جوهريًا لا يقل خطورة عن الحرب نفسها: إلى أين سيذهب هذا الركام؟

فما يبدو قضية هندسية بسيطة يخفي في جوهره صراعًا جديدًا، تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية مع الأهداف السياسية، وتُعاد من خلاله هندسة القطاع من تحت الأنقاض.

الركام كوثيقة إدانة قبل أن يكون أنقاضًا

ليست بقايا الأبنية مجرد حجارة صامتة. كل قطعة من الركام تحمل دليلاً على نوع السلاح المستخدم، وشهادة على منهجية الاستهداف. ولذلك، فإن المسارعة إلى إزالته ليست بالضرورة عملاً إنسانيًا بريئًا، بل خطوة محسوبة لطمس الأدلة قبل أن تخضع لمراجعة جنائية دولية محتملة.
لقد تحوّل الركام في كل حروب العصر إلى وثيقةٍ ماديةٍ محرجة للجناة، ولهذا تسعى بعض الأطراف، بغطاء من شعارات «التطهير البيئي» أو «الإعمار السريع»، إلى دفنه أو تصديره قبل أن يتكلم.

اقتصاد الركام: ثروة من تحت الغبار

في التجارب السابقة بسوريا والعراق ولبنان، تحوّل الركام إلى سلعة. شركات أجنبية بواجهات محلية دخلت المشهد تحت لافتة «إعادة الإعمار»، لكنها في الواقع أعادت تدوير الحديد والمعادن، واستخرجت مواد البناء لتقليل كلفة المشروعات الجديدة.
هذا السيناريو مرشّح للتكرار في غزة. ستُمنح عقود رفع الركام وإعادة تدويره لشركات «مدعومة دوليًا»، وسيتحوّل الحديد المحترق إلى مورد مربح.
غير أن الفارق هنا أن هذه العملية لن تكون مجرّد نشاط اقتصادي، بل بابًا للوصاية على القطاع، إذ لن تتحرك الجرافات إلا بإذن المانحين، ولن يُرفع حجر من مكانه دون توقيع الجهة الممولة.

الوصاية الاقتصادية تحت غطاء الإعمار

كل مشروع إعمار في منطقة منكوبة هو في الحقيقة أداة نفوذ. فحين تدخل أموال المانحين، تدخل معها شروطهم، ومعاييرهم، وفرقهم الميدانية، وتقاريرهم الدورية.
من المتوقع أن تتحوّل إدارة الركام في غزة إلى ملف تحت إشراف الأمم المتحدة والبنك الدولي، بما يتيح للدول الغربية رسم خريطة الإعمار والتحكم في الأولويات.
وهكذا تُفتح مرحلة جديدة من السيطرة، حيث يتحول ما كان رمزًا للدمار إلى وسيلة لإعادة هندسة البنية السياسية والاجتماعية للقطاع، عبر إعادة بنائه وفق تصور المانحين، لا وفق إرادة سكانه.

الركام بين سيناء والحدود

هناك احتمال واقعي بأن يُنقل جزء من الركام إلى مناطق قريبة من الحدود المصرية لأغراض لوجستية أو بيئية. هذا النقل يمنح إسرائيل ومصر معًا إشرافًا غير مباشر على عملية الإزالة.
وقد يُستخدم الركام في مشاريع تسوية أرضية داخلية أو إنشاء بنية تحتية جديدة، كما حدث في بعض المدن المدمّرة، لكن تنفيذ ذلك يتطلب وقتًا واستقرارًا سياسيًا، وهما شرطان لم يتوفرا بعد.

البعد البيئي: حين يتحول الغبار إلى سمّ

ما بعد الحرب لا يخلو من خطر آخر غير مرئي. الركام المكوّن من بقايا القصف يحتوي على الأسبستوس، الزئبق، والمعادن الثقيلة، وهي مواد سامة تتسرّب إلى المياه والتربة والهواء.
أي تعامل غير مدروس معها سيجعل الكارثة البيئية مساوية للكارثة الإنسانية. لهذا سترفع الشعارات البيئية لتبرير تدخل بعثات أجنبية جديدة «لحماية البيئة»، بينما الهدف الحقيقي سيكون السيطرة التقنية على القطاع بذريعة بيئية محايدة.

الركام كذاكرة ومقاومة

لكن الركام ليس فقط مادةً خامة، بل ذاكرة جماعية. إنه الأرشيف المادي لمدينة قاومت القصف وبقيت واقفة في الرماد. لهذا فإن محوه السريع، تحت أي ذريعة، يعني محو الشهادة المادية على الجريمة.
إن تحويل الركام إلى مشروع ربحي، أو التخلص منه دون توثيقه، يعني كتابة رواية جديدة للحرب، رواية بلا أثر للجريمة ولا أثر للمجرم.

الخاتمة: ما بعد الركام ليس إعمارًا بل اختبار وعي

حين تتوقف الحرب، لن يبدأ البناء، بل ستبدأ حرب أخرى أكثر نعومة: حرب السيطرة على المعنى، والذاكرة، والأرض.
فالركام الذي يُفترض أن يُزال، قد يصبح أداة لإعادة صياغة غزة سياسيًا واقتصاديًا، وربما ثقافيًا.
ويبقى السؤال الحاسم:
هل سيُعاد بناء غزة بما يرمّم حجارتها فحسب، أم بما يحفظ كرامتها وذاكرتها أيضًا؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.