الحملات الصليبية على الدولة العثمانية: الوجه الآخر للحروب المقدسة

 

لم تنتهِ الحروب الصليبية بانسحاب الفرسان من أسوار القدس، ولم تُغلق ملفاتها بسقوط آخر معاقلهم في المشرق. فالصراع الذي بدأ تحت راية الصليب لم يكن صراعًا عابرًا على الأرض، بل مشروعًا حضاريًا متجددًا، يتبدّل شكله ولا يتبدّل جوهره. وحين ظهرت الدولة العثمانية كقوة إسلامية عظمى، حاملة لواء الخلافة، أدرك الغرب أن "العدو التاريخي" لم يُمحَ بعد، بل تجدد في ثوب أقوى وأخطر. ومن هنا بدأت الحملات الصليبية الجديدة — ولكن هذه المرة ضد إسطنبول لا القدس، وضد السلطان لا الأمير.

1. من سقوط القسطنطينية إلى ولادة "الصليبية الحديثة"

فتح العثمانيون القسطنطينية عام 1453م، فاهتزت أوروبا المسيحية في أعماقها. لم يكن الحدث مجرد تغيير لخرائط الجغرافيا، بل زلزالًا روحيًا ضرب المركز البيزنطي الذي مثّل آخر حصون المسيحية الشرقية. عندها أعلن البابا نيقولا الخامس أن "أوروبا كلها في خطر"، ودعا إلى حملة صليبية شاملة ضد "الأتراك الكفار".
بدأت منذ تلك اللحظة مرحلة جديدة من الصراع: لم تعد الحملات تتجه نحو بيت المقدس، بل نحو "القلب السياسي للإسلام" في الأناضول والبلقان. الدولة العثمانية تحولت إلى العدو المركزي للعالم المسيحي، وبدأت الدعوات تتوالى باسم الدفاع عن "الإيمان والغرب".

2. الصليب في وجه الهلال: الحروب الأوروبية ضد العثمانيين

من القرن السادس عشر حتى السابع عشر، توالت التحالفات الأوروبية تحت رعاية البابوية لمحاصرة التمدد العثماني. لم تكن المسألة توسعًا عسكريًا عاديًا، بل مشروعًا صليبيًا معلنًا، تشارك فيه الكنيسة والملوك معًا.
في معركة ليبانتو عام 1571، تحالفت القوى البحرية الكاثوليكية ضد الأسطول العثماني، واعتبر البابا بيوس الخامس النصر يومًا مقدسًا، فأُقيمت له الصلوات في الفاتيكان.
ثم جاءت معركة فيينا 1683 لتكرّس هذا البعد الديني بوضوح. حين هُزم الجيش العثماني، خرجت أوروبا تحتفل بـ"انتصار المسيحية على الإسلام"، واعتُبرت المعركة "معركة حطين الأوروبية".

كان هذا الصراع في جوهره حرب وجود: أوروبا تخشى تمدد الإسلام إلى قلبها، والسلطنة ترى نفسها درع الأمة الذي يحميها من غزو الغرب. لم يكن أحد الطرفين ينظر إلى الآخر كجار، بل كعقيدة معادية.

3. من الحملات إلى الاستعمار: تغيّر الخطاب وبقاء الهدف

مع انحسار الخطاب الديني في أوروبا بعد عصر النهضة، لبس المشروع الصليبي ثوبًا جديدًا: التمدين و"تحرير الشعوب". لكن المضمون لم يتغير.
روسيا شنت عشرات الحروب ضد العثمانيين تحت شعار "نصرة الأرثوذكس"، بينما كانت فرنسا وبريطانيا تعملان على تفكيك السلطنة من الداخل.
تحت شعارات براقة مثل "الإصلاح" و"التنوير"، تحولت الحملات الصليبية إلى استعمار منظم. استعمروا الجزائر ومصر وبلاد الشام، وبدأوا ينسجون حول إسطنبول شبكة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية، تمهيدًا لإضعاف مركز القرار الإسلامي.

الهدف القديم ظل كما هو: كسر العمود الفقري للعالم الإسلامي المتمثل في الدولة العثمانية، وفصل المشرق عن المغرب، والعرب عن الأتراك، والمسلمين عن هويتهم الجامعة.

4. الحرب العالمية الأولى: الصليبية في ثوبها الأخير

حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، كانت أوروبا قد أتمّت استعدادها لـ"الحملة الأخيرة".
التحالف البريطاني الفرنسي الروسي خاض حربًا صريحة لإنهاء السلطنة العثمانية، وتقسيم إرثها. وحين دخل الجنرال اللنبي القدس عام 1917، قال عبارته الشهيرة:

"الآن انتهت الحروب الصليبية."
وما قاله غورو بعده في دمشق — وهو يقف على قبر صلاح الدين الأيوبي — لم يكن سوى صدى لنفس الوعي التاريخي، حين قال:
"ها قد عدنا يا صلاح الدين."

لم تكن هذه العبارات مجازية، بل اعترافًا صريحًا بأن سقوط الدولة العثمانية كان في نظر الغرب ختامًا لمشروع صليبي امتد تسعة قرون.

5. من الاحتلال العسكري إلى الوصاية السياسية

بعد تقسيم السلطنة عبر اتفاقية سايكس بيكو، لم يعد الغرب بحاجة إلى الحروب المباشرة. فقد وُلدت مرحلة جديدة من الصليبية الهادئة:

  • صليبية اقتصادية تحكم الأسواق والموارد.

  • صليبية فكرية تفرض القيم الغربية كمعيار عالمي.

  • صليبية سياسية تُنشئ أنظمة محلية تتبنى مصالح الغرب تحت ستار "الحداثة" و"الاستقرار".

تحوّل الصليب من راية في الميدان إلى منظومة عقلية تدير العالم. استُبدلت الجيوش بالبنوك، والرهبان بالمؤسسات الدولية، والبابا بالإعلام العابر للقارات.
وهكذا استمر المشروع نفسه في شكل أكثر نعومة، لكنه لا يقل خطورة.

6. الدلالة الكبرى: معركة الوعي لا السلاح

إن فهم الصراع مع الغرب من خلال هذه الاستمرارية التاريخية يكشف أن الوعي هو الجبهة الجديدة. فالحروب الصليبية لم تكن بحثًا عن غنائم، بل عن السيطرة على المعنى، على "من يحق له أن يعرّف العالم ويعيد صياغته".
والدولة العثمانية كانت آخر تجسيد سياسي لذلك المعنى الإسلامي الذي جمع بين العقيدة والسلطة. لذا كان لا بد — في المنطق الغربي — من إسقاطها لتفكيك وحدة العالم الإسلامي.
ومنذ ذلك اليوم، لم يتوقف الغرب عن محاولاته لإبقاء تلك الوحدة مجرّد ذكرى في كتب التاريخ.

خاتمة

الحملات الصليبية على الدولة العثمانية كانت ذروة الصراع بين حضارتين لا تتصارعان على أرض فحسب، بل على رؤية للإنسان والتاريخ والمصير.
وحين سقطت إسطنبول سياسيًا، لم يسقط الإسلام في الوجدان، لكنه دخل مرحلة جديدة من الوصاية الحضارية التي ما زالت آثارها تحكم المنطقة حتى اليوم.
الفرق الوحيد أن الصليب لم يعد ظاهرًا على الرايات، بل مطبوعًا على القرارات، والاقتصاد، والوعي الجمعي.
وهنا، تبدأ مهمة الوعي: أن يفكّك الرموز الجديدة للصليبية، ويدرك أن التاريخ لم ينتهِ، بل تغيّر شكله فقط.



مراجع وإشارات تاريخية

  • الوثائق البابوية في القرن الخامس عشر والسادس عشر، ولا سيما دعوات البابا نيقولا الخامس وبيوس الخامس إلى "الحروب المقدسة ضد الأتراك"، تشكّل المصدر الأول لفهم التحول الصليبي نحو الدولة العثمانية بعد سقوط القسطنطينية.
  • معركة ليبانتو (1571) وردت في أرشيف الفاتيكان ورسائل الكنيسة الكاثوليكية بوصفها "نصرًا على الكفار"، وقد خُصص يوم 7 أكتوبر عيدًا دينيًا عُرف لاحقًا باسم عيد سيدة الوردية تخليدًا للمعركة.
  • السجلات العسكرية العثمانية والأوروبية حول حصار فيينا (1529 و1683) تبرز وضوح الخطاب الديني المتبادل بين الطرفين، حيث رأت أوروبا في المعركة دفاعًا عن "قلب المسيحية"، ورآها العثمانيون فتحًا لبوابة أوروبا.
  • اتفاقية سايكس بيكو (1916) ورسائل مكماهون – حسين، تُظهر كيف تحوّل المشروع الصليبي إلى تقسيم جغرافي منسق بين القوى الغربية، ممهّدًا لنهاية السلطنة.
  • تصريحات الجنرال اللنبي (1917) والجنرال غورو (1920)** عند دخولهما القدس ودمشق**، تعدّ من أقوى الشهادات اللفظية على أن أوروبا رأت الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين استمرارًا تاريخيًا للحملات الصليبية.
  • الدراسات الحديثة مثل أعمال كارين أرمسترونغ (The Crusades and Their Impact on Today’s World) وبيتر فرانكوبان (The Silk Roads) تناولت كيف استمرّ الصراع في صور اقتصادية وثقافية بعد سقوط السلطنة.
+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.