
من الخيال إلى المختبر: كيف تعمل هذه البطارية؟
البطارية النووية التي أعلنتها الصين، والمعروفة باسم BV100 من شركة Betavolt Technology، تستند إلى مبدأ تحويل الطاقة الناتجة عن اضمحلال نظائر مشعة إلى تيار كهربائي. تستخدم الشركة نظير النيكل-63 (Nickel-63) مع شرائح من أشباه الموصلات الدقيقة، وتُغلف الخلايا بطبقات معدنية تمنع أي تسرب إشعاعي.
البطارية الحالية تولد 100 ميكروواط فقط عند جهد 3 فولت — طاقة ضئيلة للغاية، لكنها كافية لتشغيل مستشعرات دقيقة، شرائح إلكترونية صغيرة، أو أجهزة طبية تحتاج استمرارية طويلة. والأهم من ذلك: البطارية لا تحتاج إلى صيانة، ولا تتأثر بالحرارة، ولا تنفجر، ولا تفقد قدرتها بمرور الوقت.
إلى جانب ذلك، تعمل مراكز بحثية أخرى في الصين على تطوير نسخة تستخدم الكربون-14 (Carbon-14)، وقد تمتد صلاحيتها إلى قرن كامل. إنها بداية مرحلة جديدة من “الطاقة الصامتة”، لكن الطريق إلى الهواتف والسيارات لا يزال طويلاً.
أين يمكن أن تصل هذه التقنية أولاً؟
1. في عالم المستشعرات والأجهزة الدقيقة
الخطوة الأولى ستكون في الأجهزة ذات الاستهلاك المنخفض جدًا للطاقة:
-
مستشعرات بيئية تعمل في الصحارى أو تحت الماء.
-
رقاقات تحكم في الأقمار الصناعية الصغيرة.
-
أجهزة طبية مزروعة داخل الجسم، مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب، التي ستستفيد من عمرها الطويل وعدم حاجتها للشحن.
2. في الفضاء والبيئات القاسية
الفضاء والقطب الشمالي وأعماق المحيطات أماكن يصعب فيها استبدال البطاريات أو شحنها. هناك تصبح البطارية النووية حلاً مثاليًا، إذ يمكن أن تعمل عقودًا كاملة دون صيانة.
3. في البنية التحتية الذكية
أنظمة المراقبة طويلة الأمد، محطات الاتصالات، والمستشعرات المنتشرة في المدن الذكية، يمكن أن تستفيد من هذه التقنية لتقليل تكاليف الطاقة والصيانة بشكل جذري.
التحديات الكبرى: من المختبر إلى السوق
لكن قبل أن نحلم بهاتف لا يُشحن، هناك ثلاثة حواجز عملاقة أمام الانتشار التجاري لهذه التقنية:
1. محدودية القدرة الكهربائية
القدرة الحالية للبطاريات النووية تُقاس بالميكروواط، بينما يحتاج الهاتف الذكي إلى ما بين 5 و10 واط، والسيارة الكهربائية إلى أكثر من 50 ألف واط. الفارق هنا ليس مضاعفًا بسيطًا، بل مئة ألف ضعف على الأقل.
لكي تصل التقنية إلى الهواتف والسيارات، يجب تحقيق قفزة هائلة في كفاءة التحويل من الإشعاع إلى الكهرباء أو تطوير ما يُسمّى “التكديس النووي” — أي دمج ملايين الخلايا الصغيرة داخل بطارية واحدة.
2. الأمان والإشعاع
رغم أن هذه البطاريات آمنة نظريًا، فإن استخدامها على نطاق واسع يعني التعامل مع ملايين الخلايا المشعة داخل جهاز واحد. حماية المستخدم من أي إشعاع مهما كان ضئيلاً تتطلب دروعًا ثقيلة ومعقدة، مما يزيد الوزن والتكلفة ويعقّد التصميم الصناعي.
3. القوانين والتشريعات
حتى لو أثبتت التقنية أمانها، فإن العقبة الأبرز تبقى القانونية. لا توجد تشريعات تسمح بتداول أجهزة مدنية تحتوي مواد مشعة، خصوصًا في الأسواق المفتوحة. تغيير هذا الواقع يحتاج سنوات من الاختبارات والضغط السياسي والعلمي لتأسيس معايير أمان جديدة.
متى يمكن أن تصل إلى الهواتف والسيارات؟
الجواب الواقعي ليس قريبًا. لكننا نستطيع تقسيم الطريق إلى مراحل زمنية تقريبية:
المرحلة | التطبيقات المتوقعة | المدى الزمني المحتمل |
---|---|---|
2025–2030 | مستشعرات دقيقة، أجهزة طبية داخلية، أقمار صناعية صغيرة. | بدأت فعليًا في التجارب. |
2030–2040 | هواتف هجينة بطاقة نووية جزئية لشحن ذاتي بطيء. | منتصف الثلاثينيات تقريبًا. |
2040–2050 | استخدامات خاصة في مركبات عسكرية أو فضائية. | قبل الانتشار المدني. |
2050–2060 | دخول محتمل في الهواتف والسيارات التجارية. | إذا تحقق اختراق في الكفاءة والتشريع. |
أي أننا نتحدث نظريًا عن جيل منتصف القرن قبل أن تصبح “البطارية الخالدة” جزءًا من حياتنا اليومية.
ماذا لو تسارعت التطورات؟
يمكن للثورة أن تأتي أبكر إذا تحقق شرطان:
-
رفع كفاءة التحويل من الإشعاع إلى الكهرباء إلى أكثر من 10% (مقابل أقل من 1% حاليًا).
-
تطوير تقنيات النانو لتجميع الخلايا في وحدات مدمجة دون تسريب حراري أو إشعاعي.
عندها، قد نرى أول هاتف يعمل بطاقة نووية خالدة قبل عام 2040، وربما سيارات محدودة بحلول 2045.
لكن هذا يتطلب استثمارات بمليارات الدولارات في الأبحاث النووية المدنية، وهو مجال لا يزال حساسًا سياسيًا وأمنيًا.
ما وراء التقنية: ثورة في مفهوم الطاقة
إذا وصلت هذه التقنية إلى الهواتف والسيارات، فلن تكون مجرد نقلة تقنية، بل تحول فلسفي في علاقة الإنسان بالطاقة.
سيختفي مفهوم "إعادة الشحن"، وستتحول الأجهزة إلى كيانات مستقلة لا تحتاج تدخل الإنسان لتغذيتها.
سيُعاد تعريف البنية التحتية للطاقة، وستتقلص محطات الشحن، وربما تختفي البطاريات القابلة للاستبدال بالكامل.
لكن في المقابل، ستظهر أسئلة جديدة عن الخصوصية، الأمان، والسيطرة. فالجهاز الذي يعمل نصف قرن دون انقطاع هو أيضًا جهاز لا يمكن "إيقافه"، ولا يُعرف مصيره بعد عمره الطويل.
خاتمة
البطارية النووية الصينية ليست مجرد إنجاز هندسي، بل إعلان مبكر عن بداية عصر الطاقة الخالدة.
غير أنّ الطريق من المختبر إلى جيب المستخدم لا يزال مليئًا بالعقبات التقنية والتشريعية.
وإذا كانت البشرية قد احتاجت قرنًا لتنتقل من المصباح الكهربائي إلى الهاتف الذكي، فقد تحتاج نصف قرن آخر لتصل إلى هاتف لا يُشحن وسيارة لا تتوقف.
إنها ليست مسألة وقت فقط، بل إرادة علمية وسياسية لتغيير مفهوم الطاقة من جذوره.