غزة: الضامنون في الهدنة: وسطاء أم أوصياء؟

في كل اتفاق هدنة تمرّ به غزة، تظهر لافتة جديدة بعنوان “الضامنون”.

لكنّ السؤال الذي لم يُطرح بجدية بعد: من يضمن من؟ ولصالح من؟
فالمسألة لم تعد تتعلق بوقف إطلاق النار فحسب، بل ببنيةٍ كاملة من الوصاية السياسية التي تُدار تحت غطاء “الضمان”، لتصبح غزة ميدان اختبارٍ لمعادلةٍ دولية معقّدة تُعيد تعريف السيادة الفلسطينية نفسها.

أولاً: من هم الضامنون؟

الضامنون في الهدنة الأخيرة هم الولايات المتحدة، قطر، مصر، وتركيا، تحت إشرافٍ رمزي للأمم المتحدة ومتابعة أوروبية.
لكنّ هذا التعدد لا يعني توازنًا في النفوذ، بل توزيعًا للأدوار على درجات متفاوتة من السلطة:

  • الولايات المتحدة: الضامن الأعلى، لأنها الطرف الوحيد القادر على إلزام إسرائيل أو تغطية تجاوزاتها.
  • مصر: الضامن الميداني، تتحكم بالمعابر وبحركة المساعدات، وتمثل الحاجز الجغرافي والسياسي بين غزة والعالم الخارجي.
  • قطر: الضامن المالي والسياسي لحماس، تتولى القناة التفاوضية غير الرسمية وتستخدم الدعم المالي كأداة ضغط أو تحفيز.
  • تركيا: الضامن الرمزي الجديد، تحاول استعادة موطئ قدم سياسي عبر خطابٍ داعم للفلسطينيين وإجراءات تجارية ضد إسرائيل.

بهذا الترتيب، تتوزع أدوار الضمان بين القوة، والبوابة، والتمويل، والرمز.

ثانيًا: الضمان بوصفه نظام رقابة

في الشكل، يهدف الضامن إلى تثبيت الهدنة، وضمان التزام الأطراف ببنود الاتفاق، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية.
لكن في المضمون، يتحول هذا الدور إلى نظام رقابة متكامل يخضع له كل طرف فلسطيني:

  • المعابر لا تُفتح إلا بموافقة مصرية
  • الأموال لا تصل إلا عبر الوسيط القطري.
  • الهدنة لا تُمدَّد إلا بإشارة أميركية.
  • الموقف الإعلامي لا يُصاغ إلا بما ينسجم مع الإطار التركي-القطري المشترك.

بهذا الشكل، يعيش القطاع ضمن شبكة من “الضمانات” التي تُحوّله إلى إقليم مراقَب دوليًا، لا يملك من قراره إلا ما تسمح به هذه المنظومة المتشابكة.

ثالثًا: الولايات المتحدة — الضامن الذي يملك القرار

واشنطن لا تشارك كوسيط محايد، بل كطرف راعٍ لإسرائيل وضامن لامتيازاتها الأمنية.
فهي من تحدد سقف المساعدات، وتقرر متى تنتهي الهدنة ومتى تستأنف العمليات، وتستخدم ملف “محاربة الإرهاب” كغطاء دائم لتبرير أي تصعيد.

وبينما تُقدَّم كضامنٍ لوقف النار، فهي في الواقع الضامن لعدم سقوط الهيمنة الإسرائيلية.
ولذلك فإن كل اتفاق هدنة يبدأ وينتهي بموافقة أميركية، وليس بتوافق فلسطيني أو إقليمي.

رابعًا: مصر — الضامن الجغرافي والبوابة الصامتة

القاهرة تملك سلاح الجغرافيا: معبر رفح.
وبهذا المعبر وحده يمكنها أن تمنح الحياة أو تعيقها، أن تُدخل المساعدات أو تُوقفها.
من هنا يأتي نفوذها، لا من قدرة عسكرية أو مالية، بل من احتكارها لمنفذ غزة الوحيد نحو الخارج.

إلا أن هذا الدور الميداني منح مصر موقع “الضابط” أكثر من “الوسيط”.
فهي توازن بين علاقاتها مع إسرائيل والتزاماتها العربية، وتحافظ على هدوءٍ يخدم مصالحها الأمنية في سيناء، حتى لو بقي القطاع في حالة اختناقٍ دائم.

خامسًا: قطر — الضامن المالي والواجهة السياسية

الدوحة تحوّلت خلال العقد الماضي إلى الخزان المالي والسياسي لغزة.
أموالها تموّل رواتب الموظفين والمساعدات الإنسانية، ومكاتبها الدبلوماسية هي المنصة التي تُدار منها المفاوضات غير المباشرة.

لكن هذه “الشرعية الإنسانية” جعلت الدعم القطري مرتهنًا بالموافقة الأميركية.
فواشنطن تسمح به حين تراه مفيدًا لضبط حماس، وتمنعه حين تراه تهديدًا لإسرائيل.
وبذلك، أصبحت قطر تمارس ضمانًا مرنًا: تهدئ التوتر، وتحتفظ بعلاقة مع واشنطن، وتكسب موقعًا تفاوضيًا يضمن بقاءها لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاوزه.

سادسًا: تركيا — الضامن الرمزي ومسرح التوازنات

مع إدراجها في اتفاق الهدنة الأخير، حاولت أنقرة أن تثبت حضورها في الملف الفلسطيني بعد سنوات من التراجع.
وقد أعلنت بالفعل قطع علاقاتها التجارية مع إسرائيل، وأغلقت الموانئ والأجواء أمام السفن والطائرات الإسرائيلية، في خطوة رمزية حظيت بتأييد شعبي واسع.

لكن تأثيرها الفعلي على الأرض لا يزال محدودًا.
فلا هي تملك منفذًا ميدانيًا، ولا تمويلًا مباشرًا لغزة، ولا نفوذًا على إسرائيل أو واشنطن.
إنها ضامن في الشكل أكثر منها في الجوهر — حضور سياسي رمزي هدفه تثبيت مكانة تركيا في معادلة النفوذ الإقليمي، لا تغيير واقع القطاع فعليًا.

سابعًا: الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي — شهود بلا سلطة

المنظمتان تحضران كمراقبين في الاجتماعات، وتصدران بيانات متكررة عن “القلق العميق” و”الوضع الإنساني الكارثي”، لكن دون أدوات تنفيذ أو قدرة على الضغط.
إنهما غطاء قانوني للنظام القائم، يوفّر الشرعية الشكلية لاستمرار الحصار تحت مسمى “الرقابة الدولية”.

ثامنًا: الضمان كآلية وصاية سياسية

جوهر المشكلة أن مفهوم “الضامن” لا يعمل هنا كأداة سلام، بل كوسيلة لإدارة الأزمة لا حلّها.
فالضامنون لا يهدفون إلى إنهاء الاحتلال أو تفكيك منظومة الحصار، بل إلى منع الانفجار الكامل الذي قد يهدد استقرار المنطقة.

إنهم يضمنون “الهدوء” لا “الحرية”.
ويحافظون على “النظام القابل للإدارة” لا على العدالة.
وبهذا المعنى، يتحول الضمان إلى وصاية سياسية دولية على قرار غزة، تُمارس من الخارج، وتُموَّل من الخارج، وتُبرَّر بخطابٍ إنسانيٍّ ناعم يخفي جوهره الأمني الصارم.

تاسعًا: مرحلة ما بعد الهدنة – إعادة هندسة غزة

كل هذه الأدوار تمهّد لمرحلة ما بعد الهدنة، التي يجري الإعداد لها الآن خلف الكواليس.
الضامنون — وخصوصًا واشنطن والقاهرة — يعملون على بناء صيغة حكم جديدة للقطاع، تُقصي حماس جزئيًا دون أن تسقطها كليًا، وتضع الإدارة المدنية والمالية تحت إشراف إقليمي مشترك.
بمعنى آخر، غزة تُعاد هندستها لتكون منطقة إدارة دولية من دون احتلال معلن.

خاتمة: بين الوعد والوصاية

يُسوّق الضامنون أنفسهم كصنّاع سلام، لكنهم في الحقيقة حراس توازنات أكثر منهم رعاة عدالة.
إن دورهم لا يُقاس بمدى وقف النار، بل بمدى إبقاء غزة في حالة “هدوء يمكن التحكم به”.
وهكذا يتحول مفهوم “الضمان” من وعد بالحماية إلى أداة ضبط واستتباع سياسي.

وما لم يتحول الضمان إلى التزامٍ حقيقي برفع الحصار وإعادة الاعتبار لحق تقرير المصير، ستبقى الهدنة مجرد نظام مؤقت لإدارة الوجع، لا بدايةً لسلامٍ عادل.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.