هروب الإمبراطورية: كيف انسحب الأميركيون من فيتنام تحت وابل الانهيار

لم يكن مشهد المروحية الأميركية التي تحطّ على سطح السفارة في سايغون مشهدًا عابرًا في ذاكرة القرن العشرين، بل هو لحظة انكشافٍ نادرة لضعف الإمبراطورية وسط رماد دعايتها. كان الانسحاب الأميركي من فيتنام سنة 1975 نهاية حربٍ لم تُحسم عسكريًا، بل انتهت بانهيار سياسي ومعنوي. ومع أنّ واشنطن كانت قد سحبت معظم قواتها قبل عامين، إلا أنّ سقوط سايغون أجبرها على تنفيذ آخر فصول الهروب العلني، في عملية وُصفت بأنها أكبر إجلاء بالمروحيات في التاريخ الحديث.

ما قبل الانهيار: نصرٌ مؤجّل وهزيمةٌ مؤجلة

في عام 1973، وبعد توقيع اتفاقيات باريس، أعلن الرئيس نيكسون انسحاب القوات القتالية الأميركية من فيتنام. لكن الاتفاق لم يكن سلامًا حقيقيًا بقدر ما كان محاولةً لتجميد الهزيمة. تركت واشنطن خلفها جيشًا جنوبيًا مدرَّبًا ومموَّلاً، معتقدة أنّه قادر على الصمود في وجه الشمال الشيوعي. غير أنّ هذا الجيش كان يقوم على دعمٍ أميركي مباشر في التمويل والاستخبارات والإمداد الجوي. ومع انقطاع ذلك الدعم التدريجي، بدأت جبهاته تتداعى الواحدة تلو الأخرى.

في ربيع 1975، انهارت خطوط الدفاع الجنوبية بسرعة صادمة. المدن سقطت دون قتالٍ فعلي، والمعنويات انهارت أسرع من المدافع. عندها أدركت واشنطن أن “سايغون” نفسها باتت هدفًا وشيكًا.

انهيار الجنوب: من الحرب إلى الفوضى

مع اقتراب قوات الشمال من ضواحي العاصمة، تحوّل المشهد في سايغون إلى فوضى عارمة. الآلاف من الموظفين المحليين والمترجمين والمتعاونين مع الأميركيين تدافعوا إلى السفارة على أمل الهروب. المطار الرئيسي “تان سون نهات” تعرّض لقصفٍ مكثّف دمّر المدارج وأوقف الرحلات المدنية والعسكرية، لتسقط بذلك آخر وسيلة إخلاء منظّمة.

تحت هذا الضغط، فعّلت القيادة الأميركية خطةً سرّية كانت معدّة مسبقًا باسم “الرياح المتكرّرة” (Operation Frequent Wind)، وهي آخر مراحل خطة الإجلاء الكبرى.

عملية “الرياح المتكرّرة”: هروب بطائرات الهليكوبتر

في مساء 29 أبريل 1975، انطلقت العملية من فوق سطح السفارة الأميركية ومن مواقع أخرى داخل سايغون. عشرات المروحيات الأميركية — من طراز "CH-53" و"UH-1 Huey" — تناوبت على الهبوط والإقلاع وسط دخان القصف وصيحات الحشود.
كان الهدف المعلن هو إجلاء جميع الموظفين الأميركيين والمواطنين الأجانب، لكن الحقيقة أنّ كثيرًا من الفيتناميين الذين عملوا مع الأميركيين أُقصوا من القوائم، وتركوا لمصيرٍ قاسٍ بعد سقوط المدينة.

خلال أقل من أربعٍ وعشرين ساعة، نُقل أكثر من سبعة آلاف شخص إلى الأسطول البحري الأميركي الراسي قبالة سواحل فيتنام الجنوبية. السفن الحربية تحوّلت إلى منصاتٍ عائمةٍ لمروحيات تأتي محمّلة بالهاربين. بعض الطيارين الفيتناميين، في لحظة يأس، حلّقوا بطائراتهم المروحية الخاصة نحو البحر وألقوها في الماء بعد إنزال عائلاتهم على متن السفن الأميركية.

السفارة... آخر رموز الهيبة المنهارة

كان مبنى السفارة في سايغون مركز المشهد المأساوي والرمزي في آنٍ واحد. في فجر 30 أبريل، ومع اقتراب القوات الفيتنامية الشمالية من المدينة، حوصرت السفارة بآلاف المدنيين. الأميركيون أحرقوا الوثائق والملفات السرّية داخل المبنى، بينما كانت آخر مروحية تغادر السطح وعلى متنها السفير الأميركي "غراهام مارتن".
بعد ساعات قليلة، اقتحم مقاتلو الشمال المدينة، ورفعوا علمهم فوق القصر الرئاسي. سقطت سايغون، وسقطت معها أسطورة “الحرب التي لا تُخسر”.

الجنود الباقون: نهاية الصمت العسكري

رغم أن آخر الوحدات القتالية الأميركية كانت قد غادرت منذ عام 1973، فإنّ مستشارين عسكريين وموظفين في مكاتب الدفاع بقوا في فيتنام تحت مسمّياتٍ مدنية. هؤلاء كانوا أول من أُجلي في عملية “الرياح المتكرّرة”، بعد أن تخلّت عنهم القيادة الفيتنامية الجنوبية تمامًا. ومع مغادرتهم، انتهى آخر وجودٍ عسكري أميركي مباشر في فيتنام.

لم يُترك جندي واحد بعد العملية. ما تبقّى كان آلاف الأسرى والمفقودين الذين ظلّت واشنطن تبحث عنهم لعقود لاحقة، ليصبح ملف "الجنود المفقودين" أحد أطول جروحها السياسية.

قراءة في المعنى: هروبٌ أم انسحاب؟

أصرّ الخطاب الأميركي لاحقًا على أنّ ما جرى لم يكن “هروبًا”، بل “انسحابًا منظّمًا” بعد اتفاق سلام. لكن الصورة التي رآها العالم — تلك المروحية الصغيرة التي تقلع من فوق سطح السفارة وسط الحشود — كانت أقوى من كل بيانات التبرير.
لقد أظهرت فيتنام أن أقوى قوةٍ عسكرية يمكن أن تُهزم حين تفقد المعنى السياسي لحربها، وأن السيطرة على الأرض لا تُقاس بعدد الطائرات، بل بمدى شرعية القضية التي تُقاتل لأجلها.

خاتمة

حين غادرت آخر مروحية أميركية أجواء سايغون، لم تكن تخلّف وراءها بلدًا مهزومًا فحسب، بل إرثًا من الأسئلة المعلّقة حول معنى القوة وحدودها. كان ذلك الهروب نهاية زمنٍ كانت فيه واشنطن تظن أنّها قادرة على رسم خريطة العالم بإرادتها وحدها. ومنذ ذلك اليوم، لم تعد فيتنام مجرّد حرب في التاريخ، بل مرآةً دائمة لكلّ مغامرةٍ عسكرية تُبنى على الغرور السياسي لا على الوعي بالواقع.


حين تطير المروحية الأخيرة

حين ارتفعت المروحية الأخيرة من فوق سطح السفارة الأميركية في سايغون، لم تكن تحمل ركّابًا فقط، بل كانت تحمل معها زمنًا كاملًا من الوهم الإمبراطوري. ارتفعت تحت ضوءٍ خافتٍ ووجوهٍ تتطلّع إليها من الأسفل، كما لو أن التاريخ نفسه يشيّع آخر مشهدٍ من الغطرسة وهي تتوارى في الغيوم. في تلك اللحظة، لم تكن المروحية مجرّد وسيلة نجاة، بل رمزًا لانهيارٍ معنويٍّ لا يُنقَذ بالتحليق، ولا يُخفى بالدخان المتصاعد من الملفات المحترقة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.