
الحرب التي بدأت بلا هدف وانتهت بلا معنى
دخلت واشنطن أفغانستان في خريف 2001 بحجة “الحرب على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر. في بدايتها كانت العملية أشبه بانتقامٍ أكثر منها استراتيجية دولة؛ سقط نظام طالبان بسرعة، لكن سرعان ما تحوّلت الحرب إلى احتلال طويل بلا أفقٍ سياسي واضح.
عشرين عامًا من الإنفاق الهائل والتجريب السياسي ومحاولات بناء “دولة ديمقراطية” تحت حراب الناتو، انتهت إلى نظامٍ هشّ يعتمد على وجود القوات الأجنبية أكثر مما يعتمد على قاعدته الشعبية.
الولايات المتحدة كانت تحكم من خلف واجهةٍ محلية، وجيشٍ أفغاني درّبته ومَوّلته بمئات المليارات، لكنّ هذا الجيش كان صورةً مكرّرة من تجربة فيتنام: مؤسسة بلا روح، تنهار حين يُسحب عنها الأوكسجين الخارجي.
الانسحاب المتعجّل: سقوط بلا معركة
في أبريل 2021 أعلن الرئيس جو بايدن قراره بسحب كامل القوات الأميركية بحلول 31 أغسطس. القرار بدا سياسيًا أكثر من كونه عسكريًا؛ محاولة لإغلاق ملفٍّ ثقيل في الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر. لكنّ الانسحاب كان سريعًا إلى حدّ الفوضى.
في غضون أسابيع، بدأت المدن الأفغانية تسقط الواحدة تلو الأخرى بيد طالبان، دون مقاومة تُذكر. حين وصل المقاتلون إلى أبواب كابل في منتصف أغسطس، كانت الحكومة المدعومة أميركيًا قد تفكّكت تمامًا، وفرّ الرئيس أشرف غني خارج البلاد.
في تلك اللحظة، تحوّل “الانسحاب” إلى هروبٍ معلن، وتحوّل مطار كابل إلى مسرحٍ للفوضى العالمية.
مشهد المطار: سقوط الهيبة على مدرج الطائرات
كان مطار حامد كرزاي في كابل هو النسخة الحديثة من مطار “تان سون نهات” في سايغون. الحشود تزحف نحو الطائرات، الجنود الأميركيون يطلقون النار في الهواء لتفريق الناس، وأفغانٌ يتشبّثون بعجلات الطائرات العسكرية في محاولةٍ يائسةٍ للهروب من مصيرٍ مجهول.
في 15 أغسطس 2021، أقلعت آخر المروحيات من سطح السفارة الأميركية لتنقل الدبلوماسيين نحو المطار، بينما كانت القوات الأميركية تؤمّن منطقة الإقلاع تحت ضغطٍ هائل.
وفي الأيام التالية، نُفِّذت عملية الإجلاء الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة منذ فيتنام: Operation Allies Refuge، حيث نُقِل أكثر من 120 ألف شخص — بين أميركيين ومتعاونين أفغان — في ظرفٍ لم يتجاوز الأسبوعين.
لكن الصورة التي خُلدت في الذاكرة لم تكن أرقامًا ولا بيانات، بل مشهد الطائرة العملاقة من طراز C-17 وهي تقلع من كابل، فيما تتساقط من أطرافها أجسادٌ تشبّثت بها حتى الموت.
حلفاء تُركوا في العراء
كما حدث في سايغون، تُرك عشرات الآلاف من المتعاونين الأفغان خلف الأسوار. مترجمون، موظفون، جنود سابقون، نساء عاملات في المؤسسات الدولية... جميعهم عاشوا لحظة انهيار الحماية الأميركية أمام أعينهم.
البيت الأبيض أعلن أن الانسحاب “نجاحٌ استراتيجي” أنهى أطول حربٍ في تاريخ أميركا، لكنّ كثيرًا من الحلفاء الأوروبيين وصفوه بأنه “تخلٍّ مهين” و”ضربة لمصداقية الغرب بأسره”.
لقد بدت واشنطن، للمرة الثانية خلال جيلٍ واحد، تفرّ من بلدٍ ادّعت بناءه، تاركةً خلفها رماد مشروعها السياسي والعسكري.
المقارنة التي لا يريدها أحد
التشابه بين فيتنام وأفغانستان لم يكن مصادفة، بل بنية تكرّر نفسها.
في الحالتين:
- حرب طويلة بلا تعريفٍ واضح للنصر.
- جيش محلي صُنع في المختبر الأميركي ثم ذاب عند أول اختبار.
- انسحاب مضطرب تحت ضغط العدوّ المتقدّم.
- صور مروحيةٍ تغادر من فوق السفارة وسط الفوضى.
حتى في الخطاب الرسمي، تكرّر الإنكار ذاته: “لم نهرب، بل أنجزنا مهمتنا وغادرنا.” لكنّ الصور — كما في فيتنام — كانت أقوى من اللغة.
حين تطير المروحية الأخيرة
حين ارتفعت المروحية من سطح السفارة الأميركية في كابل، لم تكن تبتعد عن أرضٍ غريبة، بل عن مرآةٍ تُعيد إلى واشنطن وجهها الحقيقي. كان ذلك التحليق الأخير إعلانًا غير مكتوب بأن مشروع “فرض النظام العالمي بالقوة” وصل إلى حدّه الأقصى.
لقد انتهت حرب أفغانستان لا بهزيمةٍ عسكرية فقط، بل بانكسارٍ رمزيٍّ أعاد إلى الأذهان صورة سايغون، مؤكّدًا أن الإمبراطوريات لا تسقط من الخارج، بل تتآكل من الداخل حين تفقد القدرة على فهم الشعوب التي تحاول إخضاعها.