أنفاق فيتنام وأنفاق غرة: كيف يعاد تعريف الشجاعة والهزيمة

لم تتغيّر المقاومة، بل تغيّر من يملك الحق في وصفها.

حين انتصرت فيتنام، صار حفر الأنفاق رمزًا للعبقرية والتحدي، وامتلأت الكتب والأفلام بتمجيد المقاتل الفقير الذي هزم أقوى جيش في العالم.
وحين قاومت غزة العدوّ نفسه بثوبٍ آخر – جبهة أمريكية مزروعة في قلب المنطقة – صار الفعل ذاته جريمة، وصار المقاتل نفسه “جبانًا يختبئ تحت الأرض”.
إنها ليست حرب روايات فحسب، بل حرب على الوعي: كيف تُحوَّل الهزيمة إلى بطولة، وكيف يُجرَّم من لم يُهزم بعد.

فيتنام: حين يُجمَّل العدو بعد هزيمته

خاض الفيتناميون واحدة من أطول حروب القرن العشرين وأكثرها قسوة.
حفروا أنفاق "كو تشي" الممتدة لعشرات الكيلومترات، وبها أقاموا حياة كاملة تحت الأرض: مستشفيات، مطابخ، مراكز قيادة.
حين خرج الأميركيون مهزومين عام 1975، لم يجدوا بدًّا من الاعتراف بعظمة خصمهم.
تحولت الأنفاق إلى متحفٍ للبطولة، وزُيّنت تقارير الإعلام الأميركي بعبارات الإعجاب والدهشة:

“عبقرية المقاتل الفيتنامي تحت الأرض”،
“درسٌ في التصميم والمثابرة”.
حتى هوليوود، التي قاتلت الحرب إعلاميًا، أعادت لاحقًا صياغتها فنيًا بوصفها "تجربة إنسانية قاسية" لا "حربًا ضد الإرهاب".
بكلمة أخرى، بعد أن خسر الغرب المعركة، استعان بالسرد ليُعيد ترتيب معانيها: لم يكن الفيتنامي “إرهابيًا”، لأنه انتصر، ولأن التاريخ يُكتب دومًا بلغة المنتصر.

غزة: حين يُجرَّم من لم يُهزم بعد

في غزة، تكرّر المشهد بتقنية أكثر تطورًا وسياق أكثر اختناقًا.
الأنفاق هنا لم تُحفر تحت غابة، بل تحت حصار خانق يراقب كل حجر وكل خيط كهرباء.
ومع ذلك، استطاعت المقاومة أن تبني منظومة دفاع وهجومٍ أربكت جيوشًا تملك أحدث تكنولوجيا القرن.
لكن لأن المعركة لم تُحسم بعد، كان لا بدّ من تجريم الفعل قبل أن يتحول إلى نموذج.
فبدل أن تُسمّى الأنفاق “تكتيك البقاء”، صارت “شبكات الإرهاب”،
وبدل أن يُوصف المقاتل بـ"الصامد"، صار “الجبان الذي يختبئ من النور”.
الغاية ليست في اللغة فقط، بل في منع الاعتراف بشرعية المقاومة قبل أن تنتصر، لأن الاعتراف يعني انهيار البنية الأخلاقية التي تقوم عليها الهيمنة الأميركية في المنطقة.

إسرائيل: الجبهة الأمريكية المتقدمة

في الجوهر، ليست إسرائيل سوى الامتداد الجغرافي للمنظومة الأميركية في الشرق الأوسط،
قاعدة متقدمة لحماية مصالحها وضمان استمرار تبعية المنطقة سياسيًا واقتصاديًا.
ولذلك، فإن الحرب على غزة ليست حربًا “محلية” بين شعبٍ محاصر ودولة محتلة،
بل صراع بين إرادة التحرر وإرادة الهيمنة العالمية.
تمامًا كما كانت فيتنام جبهة اختبارٍ للنفوذ الأميركي في آسيا،
غزة اليوم جبهة اختبارٍ لشرعية هذا النفوذ في الشرق الأوسط.
ولهذا السبب بالذات، يُمنع انتصارها لا عسكريًا فقط، بل سرديًا أيضًا:
يُحاصَر وعي الناس كي لا يروا في مقاومتها نُسخة جديدة من المعجزة الفيتنامية.

حين تتحول الهزيمة إلى بطولة، والمقاومة إلى تهمة

إن ما يُمدح في فيتنام هو ما يُجرَّم في غزة.
الفعل واحد، لكن الزمن مختلف:
فيتنام بعد النصر صارت “درسًا في الحرية”،
وغزة قبل النصر تُصوَّر “تهديدًا للسلام”.
هكذا تُدير الإمبراطورية روايتها:
تُكرِّم من هزمها بعد أن تُفرغ نصره من معناه،
وتُشيطن من يقاومها قبل أن تُهزم كي تضمن ألّا تُكرَّر القصة.

صناعة الوعي كأداة حرب

كل حربٍ تخوضها الإمبراطورية تُدار بسلاحين:
المدفع، ثم الميكروفون.
الأول يُدمّر الجسد، والثاني يُخدر الوعي.
وحين تعجز عن سحق المقاومة عسكريًا، تُسخّر الإعلام لتجريمها أخلاقيًا.
فيتنام كانت شاهدًا على فشل القوة،
وغزة اليوم شاهد على فشل السردية.
لكن بين التجربتين، ظلّ هدف المنظومة واحدًا:
أن تبقى البطولة امتيازًا يمنحه المركز، لا حقًا تنتزعه الشعوب.

خاتمة: الأرض نفسها، والأنفاق نفسها، والعدالة نفسها

حين خرج الفيتناميون من أنفاقهم، خرج معهم ضوء جديد في التاريخ البشري: أن الضعيف يمكن أن يهزم الإمبراطورية.
وحين يخرج الفلسطينيون يومًا من أنفاق غزة، سيحدث الأمر ذاته — لا لأن التاريخ يعيد نفسه، بل لأن الحق لا يشيخ مهما طال تحت الأرض.
الأنفاق ليست موضعًا للاختباء، بل رحمًا يولد فيه الوعي الحرّ كلما حاولت القوة أن تخنقه.
ومن يصف المقاومين بالجبناء اليوم، هو نفسه الذي سيصفهم غدًا بالأبطال بعد أن يُجبر على الاعتراف بالهزيمة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.