الغدر المشروع: كيف نزعت الثقافة الغربية الأخلاق من السياسة؟

في عالم السياسة الغربية، لا تُقاس الأفعال بمعيار الصدق والوفاء، بل بمعيار المصلحة والنتيجة. فحين تنقض حكومةٌ عهدًا أو اتفاقًا مع دولة أخرى، لا يُوصَف الفعل بالخيانة أو الغدر، بل يُعاد تأطيره في الخطاب الرسمي والإعلامي تحت عناوين مريحة: «تغيّر في الظروف»، «إعادة تقييم للمصالح»، أو «تصحيح للمسار الاستراتيجي».

وهكذا، جرى تحييد البعد الأخلاقي من المجال السياسي حتى أصبح الغدر نفسه مشروعًا، ما دام يخدم ما يُسمّى بالمصلحة القومية.

1. من الأخلاق إلى البراغماتية

في الأزمنة القديمة، كان الوفاء بالعهد معيارًا للشرف، سواء في الموروث الديني أو في الأعراف القبلية والحضارية. أما في الغرب الحديث، فقد أعاد الفكر السياسي منذ عصر النهضة تعريف السياسة على أساس المنفعة لا الفضيلة.
ماكيافيلّي، الذي مثّل لحظة التحوّل الكبرى، قال بوضوح إن الأمير ليس ملزمًا بالوفاء بعهوده إن كان ذلك يضر بمصالحه. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد السياسة مجالًا أخلاقيًا، بل فنًّا لإدارة القوة، حيث تصبح المصلحة هي القانون الأعلى، والغاية تُبرّر الوسيلة.

لقد رسّخ هذا التحول في وعي الغرب المعاصر فكرة أن الدولة كيان فوق الأخلاق، لا يُحاسَب بميزان الضمير، بل بميزان النتائج. ولهذا حين تنقض الحكومات الغربية اتفاقًا، لا يُنظر إليها كخائنة، بل كحكومة "تحمي مصالحها"، وهو وصف يحمل في الثقافة الغربية دلالة إيجابية، لا سلبية.

2. لغة تقتل المعنى

الغدر لا يُمارس فقط بالفعل، بل أيضًا بالكلمة.
فاللغة السياسية الغربية صُمّمت لتُفرغ الأفعال من شحنتها الأخلاقية. فبدل أن يُقال "خان العهد"، يُقال "انسحب من الاتفاق"، وبدل "غدر بالحليف"، يُقال "أعاد تقييم التزامات بلاده".

هذا التعقيم اللغوي يحوّل الخيانة إلى مصطلح إداري بارد، كأنها مجرّد بند قانوني تغيّر موقعه.
وهكذا، تنجو الدولة من المحاسبة الأخلاقية، لأنها ببساطة لا تتحدث بلغة الأخلاق.
إنها تتحدث بلغة "الواقعية السياسية"، وهي اللغة التي تُحوّل الغدر إلى حكمة، والخيانة إلى مرونة.

3. ازدواجية المعايير: الغدر حين يأتي من الآخر

حين ينقض الغرب عهده، فهو يمارس «حقه السيادي».
لكن حين يخالف الآخر التزامه، يصبح فجأة "غادرًا" و"غير موثوق".
فالخيانة لا تُدان لذاتها، بل تُدان بحسب هوية الفاعل وموقعه من القوة.

تاريخيًا، استخدم الغرب هذا المنطق في تبرير انسحابه من عشرات الاتفاقيات والمعاهدات.
الولايات المتحدة انسحبت من اتفاقية باريس للمناخ، ومن الاتفاق النووي مع إيران، ومن معاهدات الحد من التسلّح، وكلها قُدّمت للشعب باعتبارها قرارات وطنية حكيمة، لا إخلالًا بالعهد.
لكن لو أن دولة أخرى فعلت ذلك مع الغرب، لكانت الصحف نفسها نعتتها بالخداع وانعدام المصداقية.

هكذا تُعاد صياغة الأخلاق وفق ميزان القوة: القوي يعرّف ما هو "الخيانة"، والضعيف هو دائمًا من يُتَّهَم بها.

4. تبرير الغدر بالاستعلاء الأخلاقي

البراغماتية ليست وحدها ما يبرر الغدر في الوعي الغربي، بل يضاف إليها عنصر أكثر عمقًا: الاستعلاء الأخلاقي.
فالغرب، منذ قرون الاستعمار الأولى، يرى نفسه حامل رسالة "تمدين" العالم ونشر القيم الليبرالية. ومن هذا المنطلق، يبرّر لنفسه أن ينقض عهوده حين يعتقد أن ذلك يخدم "النظام الدولي" أو "حقوق الإنسان".

بكلمات أخرى: الغرب لا يغدر لمصلحة مادية فحسب، بل يغدر أحيانًا بدافع أخلاقي زائف، لأنه يرى نفسه أسمى من أن يُحاسَب بالقواعد نفسها التي يفرضها على غيره.
إنه يغدر باسم "القيم"، وبهذا تتحوّل الخيانة إلى فعل فضيلة في السردية الغربية: خيانة من أجل الخير العام.

5. الغدر في وعي الشعوب الغربية

في الوعي الشعبي الغربي، لا تُعتبر خيانة الحكومة لمعاهدة أو اتفاق دولي فعلًا لا أخلاقيًا.
المعيار الوحيد للحكم هو: هل يخدم القرار مصلحة الدولة أم لا؟
فإن كان يخدمها، فهو قرار عقلاني؛ وإن أضر بها، فهو غباء سياسي.
لا أحد يتحدث عن "الضمير" أو "الوفاء"، فهذه مفاهيم محصورة في المجال الشخصي، لا في المجال العام.

لقد نجحت الفلسفة الليبرالية الحديثة في فصل الأخلاق عن السياسة، حتى بات المواطن الغربي لا يتوقع من حكومته أن تكون "وفيّة"، بل أن تكون "ناجحة".
وفي عالم النجاح، الغدر ليس خطيئة، بل مهارة.

6. الإعلام كآلة تطهير أخلاقي

يلعب الإعلام دورًا حاسمًا في ترميم الصورة الأخلاقية حين تقع الخيانة السياسية.
فهو لا يصف الحدث كما هو، بل يعيد تأويله لصالح الدولة.
حين تتراجع دولة عن التزام، يقال إن "المناخ السياسي تغيّر"، أو إن "الطرف الآخر لم يلتزم"، أو إن "الأوضاع لم تعد مواتية".
وهكذا، يُلقى اللوم دومًا على الخارج، بينما تظلّ الدولة في موقع "الفاعل العقلاني" الذي يعرف متى يتراجع ومتى يلتزم.

بهذه اللغة المواربة، تتحوّل الخيانة إلى "تقدير موقف"، ويُغسل الغدر في معجم المصالح.

7. أخلاق بلا التزامات

إن أخطر ما أنتجته الثقافة الغربية المعاصرة هو تشييء الأخلاق، أي تحويلها إلى أدوات مرنة تُستخدم عند الحاجة وتُلغى عند التعارض مع المنفعة.
فالوفاء بالعهد لم يعد قيمة بذاته، بل أصبح خيارًا قابلًا للتفاوض.
وما دامت السياسة قد تحررت من الضمير، فلا مجال بعد ذلك لحديث عن غدر أو أمانة؛ لأن الفعل السياسي لم يعد يُقاس بالصدق، بل بالنتائج.

إنها ثقافة تقول ضمنًا:

كن وفيًّا حين يخدمك الوفاء، وكن غادرًا حين يقتضي الأمر الغدر،
لكن لا تُسمِّ الغدر باسمه، بل قدّمه بلبوس العقل والمصلحة.

8. الخلاصة: حين يُعاد تعريف الخيانة

في الثقافة الغربية، الغدر ليس ممنوعًا، بل ممنوع أن يُسمّى غدرًا.
إنه مسموح ما دام يُمارَس بلغة ناعمة ويُبرَّر بخطاب "المصلحة الوطنية" أو "الدفاع عن القيم".
بهذا الشكل، نزعت الثقافة الغربية الأخلاق من السياسة، فحوّلت الخيانة إلى أداة مشروعة في إدارة العلاقات الدولية، ومارستها باسم الحكمة والاستقرار.

لقد أصبح الغدر هناك جزءًا من الواقعية، كما أصبح الكذب جزءًا من الدبلوماسية.
وما دامت النتيجة تبرّر الوسيلة، فلا مكان في قاموس الدولة الغربية لمفردة "الخيانة" — إلا حين تكون من نصيب الآخرين.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.