
الخلفيات التاريخية: من انهيار الكينزية إلى ثورة رأس المال
بعد الحرب العالمية الثانية، سادت في الغرب سياسات "دولة الرفاه"، التي نظّمت العلاقة بين الدولة والسوق والمجتمع عبر تدخل حكومي واسع لضمان العدالة الاجتماعية. لكن مع أزمة السبعينيات، وتباطؤ النمو وارتفاع التضخم، بدأ رأس المال يشعر بالاختناق داخل قبضة الدولة الاجتماعية.
عندها خرجت من الظل أفكار فريدريش هايك وميلتون فريدمان، التي رأت أن تدخل الدولة هو أصل الداء، وأن السوق هو النظام الطبيعي الوحيد القادر على تصحيح نفسه. ومع وصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى الحكم، تحوّلت النيولبرالية من فكر اقتصادي إلى عقيدة سياسية عالمية، سرعان ما فرضت هيمنتها على المؤسسات الدولية والإعلام والتعليم.
المفهوم: الدولة كخادم للسوق
النيولبرالية تُقدّم نفسها بوصفها تحريرًا للسوق من قيود الدولة، لكنها في الواقع تحرر رأس المال من قيود المجتمع. فالدولة لا تنسحب كليًا، بل تعيد تعريف وظيفتها لتصبح أداةً في خدمة المستثمرين: تضع التشريعات التي تسهّل الخصخصة، وتكبح النقابات، وتفتح الموارد العامة أمام الشركات العابرة للحدود.
تحت شعار “حرية السوق”، تُختزل الحرية في بعدٍ اقتصادي، بينما يُقصى البعد الإنساني والاجتماعي. الإنسان في ظل النيولبرالية ليس مواطنًا، بل “مورد بشري”؛ والتعليم ليس مشروعًا وطنيًا، بل استثمارًا خاصًا؛ والصحة ليست حقًا عامًا، بل سلعة مربحة.
الواقع التطبيقي: النيولبرالية كإمبراطورية خفية
منذ الثمانينيات، لم تكتفِ النيولبرالية بإعادة تشكيل الاقتصاد، بل أعادت هيكلة العالم ذاته. فالمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي تحوّلت إلى أدوات لإعادة برمجة الاقتصادات الوطنية وفق “وصفات” جاهزة: خصخصة، تقشف، تحرير مالي، وفتح الأسواق أمام رأس المال الأجنبي.
بهذه الأدوات، تحوّل كثير من دول الجنوب إلى حدائق خلفية للنظام النيولبرالي، تُنتج بأجورٍ زهيدة لتغذية استهلاك المراكز الرأسمالية.
أما في الغرب نفسه، فقد انكمشت الطبقة الوسطى، وازداد تركّز الثروة بشكلٍ غير مسبوق، حتى بات 1% من السكان يملكون ما يفوق ما يملكه النصف الأدنى من البشرية مجتمعين.
الأهداف الخفية: من السيطرة الاقتصادية إلى هندسة الوعي
النيولبرالية لا تسعى فقط إلى السيطرة على الموارد، بل إلى السيطرة على الخيال الاجتماعي. إنها أيديولوجيا تنحت الوعي البشري ليقبل بمنطق السوق كقدرٍ طبيعي لا يُناقش.
تُعيد تعريف النجاح على أنه تفوق فردي لا تضامن جماعي، وتُحوّل المسؤولية الاجتماعية إلى مبادرات تجميلية لشركات تملك أصلاً القدرة على صياغة السياسات العامة.
أما الإعلام، فيتحوّل إلى جهاز ضخم لتطبيع هذا الخطاب، عبر الترويج لثقافة “الفرصة” و”النجاح الشخصي” في عالمٍ مغلق الأبواب على الأغلبية الساحقة.
بهذا، يصبح الفقير مذنبًا لا ضحية، ويُعاد تعريف العدالة على أنها كفاءة في التكيف مع الظلم.
العولمة النيولبرالية: استعمار ناعم تحت شعار السوق
حين سقط الاتحاد السوفييتي، لم تحتفل النيولبرالية فقط بانتصار الرأسمالية، بل أعلنت نهاية البدائل.
فأُعيد رسم الخريطة العالمية على أساس تبعية اقتصادية متبادلة ظاهرًا، واستعمارٍ مالي ناعم باطنًا.
أصبحت الشركات متعددة الجنسيات أقوى من كثير من الدول، تتحكم في سلاسل الغذاء والطاقة والإعلام والتقنية، بينما تتراجع سلطة الحكومات أمام شبكات مصالح معقدة تتجاوز الحدود.
إنها الإمبراطورية الجديدة بلا علمٍ ولا جيش، بل بأسواقٍ وأدوات تمويل.
النتائج الاجتماعية: انهيار العقد الاجتماعي
ما خلفته النيولبرالية هو مجتمع اللايقين.
فالعلاقات الإنسانية تحوّلت إلى صفقات مؤقتة، والعمل فقد استقراره، والتعليم غدا دينًا طويل الأجل، والإنسان محاصر بين ضغوط السوق وخوف المستقبل.
تآكلت فكرة التضامن، وتحوّل الشعور الجمعي إلى فردانية مغلّفة بخطاب النجاح الشخصي.
وما نراه اليوم من احتجاجات اجتماعية متكررة، وصعود الشعبويات، وتراجع الثقة في النخب، ليس إلا ردّ الفعل الطبيعي على عقدٍ اجتماعي انهار تحت ثقل السوق.
نقد جوهر النيولبرالية: الحرية الزائفة
جوهر النيولبرالية يقوم على مفارقة خطيرة: فهي ترفع شعار الحرية، لكنها تُنتج عبودية من نوعٍ جديد.
فحرية السوق ليست حرية الإنسان، بل حرية رأس المال في التملّك بلا رادع، وحرية الأقوياء في استغلال الضعفاء.
إنها حرية بلا عدالة، وكفاءة بلا قيم، وانفتاح بلا سيادة.
وبينما تتحدث عن “تقليص الدولة”، فإنها في الحقيقة تعيد صياغتها كجهازٍ بوليسي اقتصادي، يحمي رأس المال من المجتمع، لا المجتمع من رأس المال.
خاتمة: ما بعد النيولبرالية؟
اليوم، ومع تصاعد الأزمات المناخية والمالية والاجتماعية، بدأت النيولبرالية تفقد بريقها، لكنها لم تفقد قبضتها.
فالعالم يعيش حالة “ما بعد النيولبرالية” دون أن يجد بديلًا واضحًا.
ومع ذلك، فإن الوعي المتنامي بانكشاف هذا النظام، وظهور الحركات التي تُعيد طرح مفاهيم العدالة والسيادة والاقتصاد التشاركي، يشير إلى أن الصراع لم يُحسم بعد.
فالنيولبرالية، وإن قدّمت نفسها كذروة التاريخ، ليست إلا مرحلة في صراع الإنسان لاستعادة إنسانيته من بين أنياب السوق.
ملحق توضيحي: ما هي النيولبرالية؟
النيولبرالية (Neoliberalism) هي تيار اقتصادي وسياسي نشأ في النصف الثاني من القرن العشرين، يدعو إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وترك السوق يحدد الأسعار والتوظيف والاستثمار.
تقوم على مبادئ الخصخصة، وحرية التجارة، وتحرير رأس المال، واعتبار المنافسة أداة التنظيم الوحيدة.
لكنها تحوّلت لاحقًا إلى منظومة فكرية تتجاوز الاقتصاد، إذ غزت التعليم والإعلام والثقافة، وجعلت الربح معيارًا لكل شيء.
باختصار: النيولبرالية ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل رؤية للعالم تجعل السوق دينًا جديدًا، ورأس المال نبيّه.