روسيا: من التدخل العسكري في سوريا إلى إعادة التموضع الجيوسياسي

تدخل روسيا في سوريا لم يكن مجرد دعم لنظام بشار الأسد، بل كان مسرحًا استراتيجيًا لإعادة تشكيل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. ومع سقوط النظام السابق، بدأت موسكو تحوّل سياساتها، من ضرب وتهجير السوريين إلى دعم الحكومة الجديدة المعارضة، في خطوة تحمل دلالات جيوسياسية عميقة. هذا التحول ليس انعكاسًا أخلاقيًا، بل قرار استراتيجي لتثبيت المصالح الروسية وسط صراع عالمي متصاعد مع أمريكا والغرب، مع الأخذ في الاعتبار التوازنات الإقليمية والصعود الصيني.

التدخل الروسي الأصلي: سوريا بوابة المتوسط وموطئ القدم الأوراسي

من منظور جيوسياسي، كان التدخل الروسي في سوريا عام 2015 جزءًا من خطة شاملة لإعادة روسيا إلى المنظومة الدولية كقوة عالمية فاعلة.

  • المنفذ الاستراتيجي: الساحل السوري على المتوسط يوفر لروسيا وصولًا دائمًا إلى مياه دافئة، بعيدًا عن قيود الشتاء على الموانئ الشمالية.

  • رد على احتكار الغرب: التدخل كان رسالة بأن روسيا قادرة على فرض مصالحها عسكريًا ودبلوماسيًا، وأن العالم لم يعد أحادي القطبية.

  • حماية عمق النفوذ الأوراسي: سقوط سوريا كان يعني فتح ثغرة في الخط الممتد من إيران إلى المتوسط، ما كان سيسمح بتمدد النفوذ الأمريكي وتهديد مصالح روسيا في المنطقة.

  • إعادة الهيبة الدولية: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شكل التدخل العسكري اختبارًا لاستعراض القوة الروسية واستعادة مكانتها كقطب عالمي.

  • مواجهة الفوضى الخلاقة الأمريكية: التدخل حدّ من تفكيك الدولة السورية على غرار ليبيا، وحمى إيران من فقدان خط إمدادها إلى لبنان، كما قدم فرصة لتنسيق المصالح مع الصين ضمن مشروع الحزام والطريق.

باختصار، كانت سوريا ورقة استراتيجية متعددة الأوجه: عسكرية، سياسية، اقتصادية، ورمزية.

التحوّل بعد سقوط النظام: من الدعم العسكري إلى الشراكة مع المعارضة الجديدة

مع انهيار النظام في ديسمبر 2024، تغيّر السياق على الأرض، وبدأت موسكو إعادة ترتيب أوراقها:

  • الحفاظ على القواعد العسكرية: قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية باتت معرضة للخطر، ما دفع روسيا لإعادة التفاوض مع القيادة الجديدة.

  • الاعتماد على الواقعية السياسية: موسكو تحركت لتأمين مصالحها مع من يمتلك القوة فعليًا، بغض النظر عن هويات القادة السابقة.

  • حماية المصالح الاقتصادية: المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار والطاقة منح روسيا موطئ قدم اقتصادي سياسي مستدام.

  • موازنة القوى الإقليمية: التكيف مع الواقع الجديد يمنع انقطاع العلاقات مع القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران، ويخفف التوتر مع الغرب دون خسارة النفوذ.

هذا التحول يظهر تغير العقيدة الروسية من الاستعراض العسكري إلى إدارة النفوذ والاستفادة من التحولات السياسية بدل الانكفاء أو الاصطدام المباشر.

الصراع الجيوسياسي العالمي: أمريكا والغرب بين المواجهة والتسوية

سوريا لم تعد مجرد مسرح محلي، بل نقطة التقاء للعبة الجيوسياسية العالمية:

  • أمريكا والغرب أرادوا إسقاط النظام الحليف لموسكو لفتح الطريق لإعادة ترتيب النفوذ، لكن روسيا عبرت عن قدرة على فرض معادلاتها، ما جعلها شريكًا لا يمكن تجاهله.

  • سوريا كورقة تفاوض: دعم موسكو للحكومة الجديدة يعطيها موقعًا قويًا في أي مفاوضات مستقبلية حول الملفات الإقليمية، بما في ذلك أوكرانيا والعقوبات والطاقة.

  • التوازن الأوراسي: روسيا والصين والإيرانيون يشكلون محورًا موازنًا للكتلة الغربية، واستعادة الاستقرار الجزئي في سوريا جزء من تثبيت هذا المحور.

  • رسائل متعددة للغرب: التحول الروسي يظهر أن موسكو ليست قوة متمردة أو مجرد محتلة، بل لاعب استراتيجي قادر على التأقلم مع التحولات للحفاظ على مصالحه.

آثار هذا التحول على مستقبل الشرق الأوسط

  1. إعادة رسم الخرائط السياسية: موسكو باتت تتعامل مع الحكومة الجديدة باعتبارها جزءًا من منظومة نفوذ روسية–أوراسية، بدل الربط الحصري بالأسد.

  2. تخفيف الصدام المباشر مع الغرب: موسكو تحاول تأمين مصالحها دون الدخول في مواجهة مفتوحة مع واشنطن، ما يسمح لها بالاحتفاظ بمرونة استراتيجية.

  3. تحفيز إعادة الإعمار والمصالح الاقتصادية: المشاريع الاقتصادية والسياسية مع الحكومة الجديدة تضمن استمرار النفوذ الروسي في كل مفاصل الدولة السورية المستقبلية.

  4. التوازن مع القوى الإقليمية: روسيا تضع نفسها في مركز التفاوض بين تركيا وإيران والسعودية، ما يمنحها قوة ناعمة لا تقل أهمية عن القوة العسكرية.

خلاصة التحليل

تدخل روسيا في سوريا والتحول اللاحق لموقفها تجاه الحكومة الجديدة ليس مجرد دعم أو معارضة، بل جزء من استراتيجية عالمية لإعادة هندسة النظام الدولي:

  • سوريا هي أداة لحماية النفوذ الأوراسي.

  • التحول يعكس التكيف مع التغيرات الواقعية على الأرض بدل التشبث بالنظام السابق.

  • موسكو تسعى لتثبيت مصالحها العسكرية، الاقتصادية، والدبلوماسية في مواجهة الهيمنة الغربية.

  • التحرك الروسي في سوريا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصراع مع أمريكا والغرب، ويعكس منطق الحرب الباردة الجديدة بين الشرق والغرب، مع مراعاة صعود الصين كمنافس استراتيجي.

باختصار، روسيا ترى في سوريا مساحة لإعادة تثبيت قدرتها على تحديد مصير المنطقة وموازين القوى العالمية، عبر الجمع بين القوة العسكرية، النفوذ السياسي، والمصالح الاقتصادية، بدل الاعتماد على أي شخصية فردية أو نظام سياسي معين.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.