
البدايات: من مشروع تحديث إلى أداة استلاب
تحت شعارات “التنوير” و“التحديث”، دخلت العلمانية إلى العالم العربي في القرن التاسع عشر على أيدي البعثات الأوروبية والنخب المتأثرة بالغرب. غير أن جوهرها لم يكن صراعًا معرفيًا بين العقل والنص، كما في أوروبا، بل صراعًا سياسيًا بين الهوية والاستعمار.
ففي مصر والشام والمغرب، لم تكن العلمانية سوى غطاء لانتزاع المرجعية الدينية والثقافية من المجال العام، وإحلال منظومة فكرية جديدة تضمن انصهار المجتمعات في النظام الغربي. لقد رُوّج لها على أنها طريق “النهوض”، بينما كانت في الواقع طريق “الاحتواء”.
العلمانية كذراع ناعمة للاستعمار
حين انسحبت الجيوش الأجنبية من الأراضي العربية، تركت وراءها منظومة فكرية تحرس مصالحها. تحوّلت العلمانية إلى أداة داخلية لإدامة التبعية، حيث تمّ تفريغ الدين من مضمونه الاجتماعي والسياسي، وتحويله إلى شأن شخصي منزوع الفاعلية.
كانت النخب “العلمانية” العربية في حقيقتها امتدادًا للوصاية الأجنبية، تحمل أدوات الحداثة ولكنها تفتقر إلى روحها النقدية. فأنتجت دولًا هجينة: تتحدث بلغة التنوير، وتحكم بعقلية أمنية، وتستورد الأفكار كما تستورد السلاح والغذاء.
سقوط الوهم: العلمانية والاستبداد
في التجربة العربية، لم تنتج العلمانية حرية، بل أنظمة قمعية مغلّفة بشعارات التقدّم. من بورقيبة إلى الأسد وصدام، ومن عبد الناصر إلى البعث، اتخذت النخب العسكرية شعارات “الدولة المدنية” و“الوطنية العلمانية” لتبرير مصادرة المجتمع وإسكات الأصوات.
ولأنها لم تنشأ من حوار فكري حر، بل من فوق، تحوّلت العلمانية إلى عقيدة الدولة الأمنية. صارت ضد الدين وضد الحرية معًا. وهكذا ارتبط اسمها في الوعي الشعبي بالقمع لا بالتحرر، وبالفساد لا بالعقلانية.
الهوية الممزقة: فشل الاندماج وفقدان المعنى
مع مرور العقود، بدأ المشروع العلماني العربي يفقد قدرته على إنتاج معنى أو ولاء. لم ينجح في بناء وطن حقيقي ولا في صياغة مواطنة جامعة، لأنه فصل الإنسان عن تاريخه دون أن يمنحه بديلًا.
فتشرذمت المجتمعات بين قوميات متناحرة وطوائف متعصبة، بعدما كانت الأمة الإسلامية تشكل إطارًا وحدويًا واسعًا. ومن رحم هذا الفراغ الروحي والسياسي، وُلدت كل أشكال التطرف التي ادّعت الأنظمة العلمانية أنها تحاربها.
التحوّل الجديد: ما بعد السقوط
في العقود الأخيرة، ومع تصدّع الأنظمة العلمانية في المشرق والمغرب، بدا واضحًا أن المشروع وصل إلى نهايته الطبيعية. لم يعد قادرًا على إقناع أحد بأنه يمثل التقدم أو العقل، بل أصبح مرادفًا للفشل والتبعية.
فمع كل انتفاضة شعبية، كانت الشعارات التي ترفع الحرية والكرامة تطيح بالواجهة “العلمانية الرسمية” التي حكمت لعقود باسم الوطن. ومن المفارقات أن العودة إلى الوعي الديني، رغم ارتباكها وتناقضاتها، جاءت بوصفها ردّ فعل على خواء الخطاب العلماني لا نقيضًا للعقلانية.
الخاتمة: نحو وعي جديد
العلمانية العربية لم تسقط لأنها ناقشت الدين، بل لأنها ناقضت نفسها. فحين ترفع شعار الحرية ثم تبرر القمع، وحين تزعم الدفاع عن العقل ثم تُقصي أي صوت مخالف، تصبح أيديولوجيا سلطوية لا فكرًا تحرريًا.
لقد آن أوان نقدٍ أعمق، لا يكتفي برفضها أو تقديسها، بل يفكك السياق الذي أنتجها: سياق الوصاية، والاغتراب، واحتلال الوعي. فالمعركة ليست بين الدين والعقل، بل بين الاستقلال والتبعية، بين من يصنع قراره ومن يُصنع له.