إندونيسيا: ثورة الجياع وهروب سوهارتو: حين انفجر الصمت الشعبي في وجه الإمبراطورية المالية

لم تكن ثورة الجياع في إندونيسيا عام 1998 مجرد اضطرابات شعبية ضد الغلاء، بل كانت لحظة تاريخية كسرت فيها الجماهير واحداً من أطول أنظمة الحكم في آسيا، وأسقطت الرجل الذي مثّل لثلاثة عقودٍ متواصلة وجه "الاستقرار المصنوع" على الطريقة الأمريكية. سوهارتو، الذي اعتُبر يوماً “بطل التنمية”، انتهى هارباً من شعبٍ جاع تحت نظامٍ كان يصدّر للغرب صورة “المعجزة الاقتصادية الآسيوية”.

من الجنرال المنقذ إلى رجل المؤسسات الأجنبية

تسلّم سوهارتو الحكم عام 1967 بعد انقلاب دموي أطاح بسوكارنو، الزعيم المؤسس الذي تحدّى الغرب في الحرب الباردة. رفع سوهارتو شعار “النظام الجديد”، وأغلق الباب أمام أي فكر اشتراكي أو وطني مستقل، مقابل فتح كل الأبواب أمام صندوق النقد والبنك الدولي والشركات الغربية.
تحولت إندونيسيا، خلال حكمه، إلى مختبر مثالي لسياسات النيوليبرالية المبكرة: خصخصة، انفتاح تجاري، وتفكيك دور الدولة في الاقتصاد. لكن وراء الأرقام المبهرة التي كانت تملأ تقارير التنمية، كانت البلاد تعيش هشاشة اجتماعية مروّعة، حيث تركزت الثروة في أيدي النخبة العسكرية وعائلة سوهارتو ومجموعة محدودة من رجال الأعمال المقربين منه.

الفقاعة التي فجّرها الجوع

حين ضربت الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، انهارت أسطورة "المعجزة الإندونيسية" في أيام. انخفضت قيمة الروبية بأكثر من 80%، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، خصوصاً أسعار الأرز والزيت والسكر، وهي المواد التي تشكل أساس غذاء الفقراء.
الملايين فقدوا وظائفهم، والمصانع أغلقت، والبنوك أفلست. أما سوهارتو، فقد واصل توقيع اتفاقات “الإنقاذ” مع صندوق النقد الدولي، الذي فرض بدوره سياسات تقشف زادت الفقراء فقراً.
تحت ضغط الجوع، خرجت المدن الكبرى – جاكرتا، سورابايا، ميدان – في موجة احتجاجات لم تعرفها البلاد من قبل. لم تكن الأحزاب هي التي قادت الحراك، بل الطلبة والفقراء والعاطلون، الذين فقدوا كل شيء ما عدا صوتهم.

النظام يتشقق

مع اتساع رقعة الاحتجاجات، بدأت مؤسسات النظام تتداعى. ارتكب الجيش مجازر ضد الطلبة في جامعة تريساكتي، فسقط قتلى أشعلوا غضب العاصمة. تحولت المظاهرات إلى ثورة حقيقية، امتدت إلى الأحياء الفقيرة التي كانت تعيش على الهامش لعقود.
الأسواق احترقت، البنوك نُهبت، واندلع العنف العرقي ضد الصينيين الإندونيسيين الذين ارتبطوا في وعي الجماهير برموز المال والاحتكار. كانت البلاد على شفا الانفجار الشامل، بينما سوهارتو يحاول التمسك بشرعية لم تعد موجودة.

هروب “الأب” وصمت الجنرالات

في مايو 1998، اضطر سوهارتو إلى الاستقالة تحت ضغط الجيش نفسه، الذي أدرك أن بقاءه يعني انهيار الدولة. غادر القصر صامتاً بعد 32 عاماً من الحكم، في مشهدٍ لم يكن سقوط رجل بقدر ما كان سقوط مرحلة كاملة.
الجنرال الذي بدأ مسيرته بإبادة الشيوعيين تحت ذريعة "إنقاذ الأمة"، انتهى هارباً من الجياع الذين صنعهم بنفسه. لم يُحاكم، بل عاش في عزلة محمية حتى وفاته عام 2008، بينما ظلت ثروته الضخمة – المقدّرة بعشرات المليارات – رمزاً للفجوة بين السلطة والثروة في النظام النيوليبرالي الذي ورثته البلاد.

بين الجوع والكرامة: الدرس الإندونيسي

ثورة الجياع في إندونيسيا لم تكن مجرد ردّ فعل اقتصادي؛ كانت انفجاراً ضد منظومة الهيمنة المالية التي خنقت العالم الثالث باسم التنمية. فقد أثبتت التجربة أن "الاستقرار" الذي يُبنى على الديون، و"النمو" الذي يقوم على امتصاص العرق الشعبي، لا يصمد أمام أول صدمة مالية.
ما حدث عام 1998 كان إعادة تذكير للعالم بأن الفقر ليس قدراً، وأن الشعوب حين تجوع لا تسأل عن الإيديولوجيا، بل عن الخبز والكرامة.

ما وراء الحدث: الوجه الخفي للنيوليبرالية

من منظور جيوسياسي، كانت إندونيسيا نموذجاً مصغراً لما تفعله واشنطن في الأطراف التابعة: دعم أنظمة عسكرية موالية، تضخيم النمو الاقتصادي عبر القروض والاستثمارات قصيرة الأجل، ثم ترك الدولة تنهار حين تتغير موازين السوق.
سوهارتو لم يكن مجرد طاغية محلي؛ كان جزءاً من هندسةٍ عالمية صممتها المؤسسات المالية لتأبيد التبعية الاقتصادية. لذلك، فإن سقوطه لم يكن فقط سقوط رئيس، بل انكشاف لآليةٍ كاملة من التحكم في الشعوب عبر “الجوع المنظم”.

خاتمة: حين يتكلم الفقراء بصوتٍ واحد

قد تتغير الأدوات، لكن نمط السيطرة واحد: تُمنح الشعوب “نموًّا” على الورق، بينما يُسلب منها القرار الحقيقي. غير أن ما حدث في جاكرتا يظل شاهداً على أن الجوع، حين يتحول إلى وعي جمعي، يُسقط أعتى الأنظمة مهما بدت محصّنة.
لقد كانت ثورة الجياع في إندونيسيا أكثر من انتفاضة خبز؛ كانت إعلاناً بأن الإنسان حين يُحرم من الكرامة، يصبح هو المعجزة التي لا تتنبأ بها تقارير البنك الدولي.
+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.