تفكيك الوعي - المحور الثاني: استخدام الحروب لتفكيك القوى الصاعدة: حرب الشيشان ضد روسيا

حرب الشيشان ضد روسيا: ما وراءها وما بعدَها

 

ليست حرب الشيشان مجرّد صراعٍ محليّ بين موسكو وجمهوريةٍ متمرّدة في القوقاز، بل هي فصلٌ من فصول الحرب العالمية الباردة الجديدة التي بدأت قبل أن تُعلَن رسميًا. فبين أنقاض غروزني، كانت تتقاطع خطوط الاستراتيجيا الأمريكية، والمصالح النفطية، والوصاية الدينية المموّلة من الخليج، مع إرثٍ روسيٍّ مثقلٍ بالانهيار السوفييتي. إنها الحرب التي كشفت كيف يمكن تحويل قضية تحرّرٍ محلية إلى أداةٍ في لعبة الأمم.

الشيشان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي

حين تفكّك الاتحاد السوفييتي عام 1991، خرجت جمهوريات القوقاز إلى السطح محمّلة بالهويات المكبوتة، والولاءات الدينية والقَبلية التي حاول النظام السوفييتي طمسها لعقود. في تلك الفوضى، أعلنت الشيشان استقلالها بقيادة جوهر دوداييف، الضابط السابق في الجيش السوفييتي، مستغلةً ضعف موسكو وانشغالها بإعادة ترتيب البيت الروسي.

لكن موسكو لم تكن ترى في الانفصال مجرد قضية داخلية؛ بل كانت تدرك أن فقدان الشيشان يعني فتح الثغرة الجنوبية أمام الحركات الانفصالية في داغستان وأنغوشيا، والأهم: تهديد خطوط الطاقة القادمة من بحر قزوين إلى أوروبا. لذلك كان الحسم بالنسبة لروسيا مسألة بقاءٍ استراتيجي، لا مجرد نزاعٍ إداري.

البعد الأمريكي: القوقاز كساحة حرب بديلة

في تسعينيات القرن العشرين، كانت واشنطن تبحث عن طرقٍ لتطويق روسيا دون مواجهةٍ مباشرة، بعد أن تخلّت عن شعار «نهاية الحرب الباردة» لصالح مشروع التوسع الأطلسي شرقًا.
ولأن التدخل العسكري المباشر في القوقاز كان مستحيلًا، فقد فُتِح الباب أمام الحرب بالوكالة: دعم السرديات الانفصالية، وتغذية الخطاب الجهادي تحت شعارات «نصرة المسلمين في القوقاز»، لتفكيك الحزام الجنوبي لروسيا كما فُكِّك الحزام الإسلامي في أفغانستان قبلها.

ومن هنا بدأ البُعد الأخطر: استخدام «الهوية الدينية» كسلاح جيوسياسي. فالمخابرات الأمريكية والبريطانية، التي راكمت خبرة «الأفغنة» في الثمانينيات، أدركت أن إحياء الخطاب الجهادي في الشيشان سيُربك موسكو، ويُضعف استقرارها الداخلي، ويستنزفها ماليًا وسياسيًا دون تدخلٍ مباشر من الغرب.

التمويل الخليجي: الدين في خدمة الجغرافيا

دخل المال الخليجي على الخط مبكرًا، من بوابة الجمعيات الدعوية والإغاثية التي نشطت في الشيشان وداغستان تحت غطاء إنساني. لكن هذه الجمعيات كانت، في الواقع، واجهات لتمويل وتسليح المقاتلين القادمين من أفغانستان والبوسنة واليمن، الذين شكّلوا ما سُمّي بـ«المهاجرين» في الخطاب الجهادي آنذاك.

هذا التمويل لم يكن عشوائيًا. بل جاء منسّقًا ضمن شبكةٍ غامضة تربط بين الدعم الأمريكي الاستخباراتي والتمويل الخليجي الديني، في إطار استراتيجية مشتركة لإبقاء روسيا في حالة نزيف دائم، كما حُوصِرت سابقًا في أفغانستان.
لقد تحوّلت الشيشان إلى أفغانستانٍ ثانية، لكن على أبواب موسكو.

حربان ووجهٌ واحد

اندلعت الحرب الشيشانية الأولى (1994–1996) وانتهت بانسحابٍ روسيٍ مذلّ، بفعل المقاومة الشرسة والدعم الخارجي غير المعلن. لكن الانتصار الشيشاني لم يكن سوى انتصارٍ لمرحلة الفوضى، إذ تحوّلت الجمهورية المستقلة إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للفصائل الجهادية وتجار الحرب، وبدأت العمليات تمتد إلى داخل روسيا نفسها.

ثم جاءت الحرب الشيشانية الثانية (1999–2009) بقيادة فلاديمير بوتين، الذي بنى صعوده السياسي على شعار «استعادة هيبة الدولة». كانت هذه الحرب أشدّ قسوةً وتنظيمًا، واستُخدمت فيها كل وسائل القوة الروسية لإعادة فرض السيطرة الكاملة. ومع نهاية العقد، كانت غروزني قد سُوّيت بالأرض، والشيشان قد أُعيدت إلى الحظيرة الروسية، تحت إدارة رمزية لرمضان قديروف الموالي للكرملين.

لكنّ الحرب لم تنتهِ فعليًا؛ إذ تحوّلت إلى حربٍ استخباراتية ناعمة بين روسيا والغرب، تتخذ أشكالًا متعددة: تمويلٍ إعلامي، احتضانٍ للمنفيين، وتوظيف الملف الشيشاني كورقة ضغطٍ دائمة في وجه موسكو كلما اقتضت الحاجة.

النتائج الجيوسياسية: روسيا الجديدة تولد من رماد غروزني

قد يبدو أن موسكو دفعت الثمن الأكبر في الشيشان من حيث الخسائر البشرية والمادية، لكن تلك الحرب كانت لحظة ولادة روسيا البوتينية الجديدة:
روسيا التي أدركت أن الحرب لم تعد على حدودها، بل على هويتها ووجودها نفسه. ومن رحم تلك الصدمة، بدأ التحول الاستراتيجي نحو مركزية الدولة، وإعادة بناء الجيش، واستعادة النفوذ في محيطها السوفييتي السابق.

لقد فشل الرهان الأمريكي على تفكيك روسيا عبر الشيشان، لكنه نجح في كشف نوايا الغرب بوضوح لروسيا. ولذلك، حين اندلعت حرب جورجيا عام 2008، ثم الأزمة الأوكرانية لاحقًا، كانت موسكو أكثر استعدادًا وصرامة. فالحرب الشيشانية كانت «الجرس الأول» الذي أعاد للكرملين وعيه التاريخي.

من الشيشان إلى أوكرانيا: المبدأ نفسه

اليوم، حين نقرأ الخطاب الغربي حول «حرية أوكرانيا» و«تحرير الشعوب من الهيمنة الروسية»، نكاد نسمع الصدى ذاته الذي استُخدم في التسعينيات لتبرير دعم الانفصال في الشيشان.
المبدأ واحد: تغليف الجغرافيا بالشعارات الأخلاقية.
لكن روسيا لم تعد تلك الدولة المترنّحة بعد الانهيار، بل قوة نووية متماسكة تُدير صراعها بعقيدةٍ هجينة تجمع بين الأمن القومي والموروث الحضاري.

وفي المقابل، لم يعد الغرب قادرًا على تكرار سيناريو «المجاهدين» بالشكل القديم، بعدما انقلبت تلك الأدوات عليه في حروبٍ لاحقة. ومع ذلك، تظل الفكرة قائمة: كل بؤرة يمكن أن تُشكّل ضغطًا على موسكو تُستثمر إلى أقصى مدى، سواء في القوقاز أو آسيا الوسطى أو حدود البلطيق.

التداعيات البعيدة: الجرح المفتوح في ذاكرة الروس

ما تركته حرب الشيشان في الوعي الروسي يتجاوز حدود السياسة. فهي شكّلت ذاكرة جرحٍ قومي، جعلت من أي دعوةٍ لانفصالٍ أو احتجاجٍ داخلي تُقرأ في موسكو باعتبارها «مؤامرة غربية». ولهذا السبب، صارت الدولة الروسية أكثر انغلاقًا أمنيًا، وأكثر تشددًا تجاه الجمعيات الدينية والمنظمات الأجنبية.

وفي المقابل، استثمرت واشنطن تلك الحساسية لوسم روسيا بالاستبداد، مروّجةً لصورتها كقوة قمعيةٍ تعادي الحريات، بينما تغضّ الطرف عن أصل الصراع: أنه صُنع أصلًا لإغراق روسيا في حربٍ داخل حدودها.

خاتمة: من يستخدم من؟

تُظهر تجربة الشيشان أن الغرب لم يدعم «تحرّر الشعوب»، بل استخدم قضاياها وقودًا لحروبه الجيوسياسية. وأن بعض الأنظمة العربية، بدافع الولاء أو الخوف، شاركت في تمويل حروبٍ لم تكن تعرف أن نارها ستصل إليها لاحقًا، حين انقلبت التيارات الجهادية من أدواتٍ إلى تهديدٍ داخلي.

الشيشان كانت درسًا باهظًا للجميع: لروسيا التي تعلمت معنى الدولة، وللولايات المتحدة التي أعادت إنتاج فوضى دينية عالمية، وللعالم الإسلامي الذي اكتشف متأخرًا كيف تُستَخدم العاطفة الدينية في خدمة خرائط القوى الكبرى.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.