حرب الشيشان وحرب أوكرانيا: وحدة الغرض واختلاف القناع

أولاً: الشيشان.. اختبار مبكر لإضعاف روسيا
حين اندلعت الحرب في الشيشان عام 1994، كانت روسيا الخارجة من صدمة الانهيار السوفييتي في وضعٍ هش، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وقد وجدت القوى الغربية في الحركة الانفصالية الشيشانية فرصة مثالية لضرب الداخل الروسي من خاصرته الإسلامية، عبر إذكاء النزعة القومية والدينية وتقديم الدعم غير المباشر للمقاتلين من خلال قنوات خليجية وأوروبية، تحت غطاء “الجهاد” و”حق تقرير المصير”.
لكن جوهر المسألة لم يكن دينياً أو قومياً بقدر ما كان هندسةً لصدامٍ يجرّ روسيا إلى حرب استنزاف داخلية. أرادت واشنطن وحلفاؤها أن تتورط موسكو في نزيفٍ بشري ومالي طويل الأمد، يشلّ قدرتها على إعادة بناء الدولة الروسية المركزية.
لقد كانت الشيشان — من زاوية جيوسياسية — أداة اختبار لمدى صلابة روسيا الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. لم يكن المطلوب إسقاطها بالكامل، بل إثبات عجزها أمام "التمرد الداخلي" كي تبقى قوة محلية لا أكثر.
ثانياً: من “جهاد الشيشان” إلى “ديمقراطية أوكرانيا”
حين تحولت بوصلة الحرب نحو أوروبا الشرقية بعد عقدين، بدت الأدوار نفسها تتكرر بلبوس جديد. الغرب الذي دعم الانفصاليين في القوقاز بحجة الحرية الدينية، هو ذاته الذي دعم أوكرانيا بحجة الحرية الديمقراطية. في الحالتين، كان الهدف خلق حاجز عدائي متوتر على حدود روسيا، يستهلكها عسكرياً ويعزلها دبلوماسياً.
أوكرانيا بالنسبة للغرب ليست “قضية سيادة”، بل جدار جيوسياسي يطوق روسيا ويمنعها من استعادة نفوذها في الفضاء السوفييتي السابق. أما بالنسبة لموسكو، فهي معركة وجود لا جغرافيا؛ فخسارتها تعني فتح بوابة الناتو إلى قلب روسيا.
الفرق بين الحالتين هو الشكل الخطابي فقط:
في الشيشان: كانت الدعاية الغربية تقوم على “حق الأقليات في الانفصال”.
في أوكرانيا: تحولت إلى “حق الدول في الانضمام للغرب”.
لكن النتيجة واحدة: تفكيك المجال الروسي من الداخل والخارج.
ثالثاً: الهندسة الجيوسياسية للعدو الداخلي
في كلتا الحربين، صُنِع العدو داخل الجسد الروسي نفسه. في الشيشان كان “العدو المسلم”، وفي أوكرانيا كان “الجار الأوروبي”. كلاهما بُني على سردية أخلاقية تغطي جوهر المشروع: تفجير الداخل الروسي من خلال وكلاء محليين، بينما تُدار المعركة من غرف استراتيجية في الغرب.
إنها نفس المعادلة التي استخدمتها واشنطن في أفغانستان والعراق وسوريا: زرع بيئة صدام تُبقي الخصم في حالة احتراق ذاتي دائم.
وحين نتأمل التسلسل الزمني، نجد أن التجربة الشيشانية أمدّت الغرب بمعرفة عملية حول طبيعة الاستجابة الروسية. فلما عادت روسيا بقوة في عهد بوتين وأعادت ضبط الداخل، بدأ الغرب بتحريك الجبهة الغربية عبر أوكرانيا لإعادة إشعال الحصار.
رابعاً: الحصار الدائري ومبدأ “الحرب من الأطراف”
السياسة الغربية تجاه روسيا لا تقوم على الغزو المباشر، بل على “الحرب من الأطراف”. فبدلاً من مواجهة موسكو في معركة كلاسيكية، يجري استنزافها عبر أزمات محيطة: جورجيا، القوقاز، أوكرانيا، البلطيق، وحتى آسيا الوسطى.
تُستخدم هذه البؤر لإبقاء روسيا في حالة توتر دائمة، بحيث لا تتفرغ لتوسيع نفوذها شرقاً نحو الصين أو جنوباً نحو الشرق الأوسط.
حرب الشيشان كانت البداية الداخلية لهذه الاستراتيجية، بينما حرب أوكرانيا تمثل ذروتها الخارجية. الأولى أضعفت الجسد الروسي من الداخل، والثانية تسعى لتطويق هذا الجسد من الخارج. كلاهما يهدفان إلى الغاية ذاتها: تحييد روسيا ومنعها من تشكيل قطب منافس في النظام الدولي الجديد.
خامساً: الغرب يصنع العدو ثم يتباكى عليه
في الشيشان، صنع الغرب صورة “المجاهدين من أجل الحرية”، ثم تركهم يواجهون الكارثة حين انتهت فائدتهم. وفي أوكرانيا، صنع الغرب “المدافع الديمقراطي عن أوروبا”، ثم يواصل تغذيته بالسلاح كي يواصل النزيف نيابةً عن الناتو.
الآلية واحدة: تحريك طرف محلي لقتال روسيا، ثم إدارة المشهد من بعيد، بحيث يتحمل الطرف المحلي الكلفة البشرية والسياسية، بينما يحصد الغرب مكاسب الحصار والعقوبات وإضعاف الاقتصاد الروسي.
النتيجة واحدة: حرب بلا منتصر. فالشيشان دُمرت باسم الحرية، وأوكرانيا تُدمَّر باسم الديمقراطية. لكن الهدف الحقيقي تحقق في الحالتين: استنزاف روسيا وتشويه صورتها أمام العالم.
سادساً: بين الشيشان وأوكرانيا.. استمرارية مشروع لا ينتهي
لا يمكن فهم الحربين بمعزل عن المشروع الأمريكي الطويل لاحتواء روسيا. فكلتا الحالتين تمثلان مراحل من مخطط استراتيجي واحد يقوم على ثلاث ركائز:
تحريك النزعات الداخلية أو الحدودية لتفجير المجال الروسي.
إعادة صياغة السردية الأخلاقية التي تبرر التدخل الغربي، سواء باسم الدين أو الديمقراطية.
تحويل الحروب إلى مختبرات نفوذ تُقاس بها قدرة روسيا على الصمود ومدى فعالية الردع الغربي.
وحين تنظر موسكو اليوم إلى حرب أوكرانيا، فهي تراها استمراراً مباشراً لما بدأ في الشيشان، لكن على نطاق أوسع. إنها حرب وجودية ضد مشروع التفكيك نفسه، لا ضد دولة محددة.
سابعاً: روسيا الجديدة وتحوّل الوعي الاستراتيجي
التجربة الشيشانية جعلت روسيا تدرك أن المعركة ليست مع تمرد محلي أو جار غربي، بل مع هندسةٍ عالمية تستهدف تفكيكها كحضارة. لهذا، تغيّر مفهوم الأمن القومي الروسي بعد الشيشان جذرياً: من الدفاع عن الحدود إلى الدفاع عن الهوية والسيادة في وجه مشروع الاختراق الغربي الشامل.
وحين اندلعت حرب أوكرانيا، لم تعد موسكو تنظر إليها كأزمة عابرة، بل كحرب مصيرية لتثبيت موقعها كقطب دولي مستقل، حتى لو كلفها ذلك عزلة اقتصادية مؤقتة.
خاتمة: حرب واحدة بوجوه متعددة
في الجوهر، لم تكن حرب الشيشان ولا حرب أوكرانيا سوى فصلين من كتاب واحد: كتاب الصراع على روسيا.
الاختلاف في الشعارات لا يغيّر جوهر الغاية؛ فالغرب يبدّل الأقنعة، من “تحرير الشعوب” إلى “نصرة الديمقراطية”، لكنه لا يبدّل الهدف: إبقاء روسيا محاصرة، منهكة، بلا عمق استراتيجي.
أما روسيا، فقد أدركت متأخرة أن معاركها ليست ضد الانفصاليين أو الأوكرانيين، بل ضد مشروعٍ دوليّ يسعى لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية للعالم على مقاس الهيمنة الغربية.
وهكذا تتغير الواجهات، لكن المعركة تبقى واحدة: من غروزني إلى دونباس، حربٌ واحدة تُدار بأسماءٍ مختلفة، وغرضٍ واحد لا يتبدّل — تفكيك روسيا قبل أن تعود إمبراطورية.