تفكيك الوعي - المحور الثالث: أدوات السيطرة: استخدام المسلمين في الحروب بالوكالة

وعي المسلمين المتأخر بحروب الوكالة.. الثمرة يقطفها الآخرون

 

منذ أفول الخلافة العثمانية، واندفاع القوى الاستعمارية لإعادة رسم خرائط العالم الإسلامي، صار الدين — لا سيما فكرة “الجهاد” — مادةً خامًا في مختبر السياسة العالمية. تحت شعارات التحرر ومقاومة الإلحاد أو الطغيان، خاض المسلمون معارك كبرى ظنّوها طريقًا إلى نهضة الأمة، فإذا بها تُفتح على مصائر مدمّرة صنعتها مراكز القوى في واشنطن ولندن وتل أبيب. لم يكن الخداع في المبدأ، بل في التوظيف؛ إذ تحوّل الإيمان الصادق إلى وقود لحروب بالوكالة. ولم يبدأ الوعي بهذه اللعبة إلا بعد أن احترق الميدان، وسقطت الأقنعة.

البدايات: صناعة الوعي الوظيفي

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أعادت القوى الغربية تنظيم حضورها في الشرق من خلال نموذجٍ جديد: التحكم بالوعي بدل الاحتلال المباشر. ووجدت في الخطاب الديني أداةً ناعمة للتأثير. فحين دخل العالم مرحلة الحرب الباردة، كان المطلوب هو تحويل الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية إلى معركةٍ دينية بين “الإيمان” و“الإلحاد”.
وهكذا، جرى تحويل الإسلام إلى محرّك تعبئة ضد المعسكر الشرقي. كانت أمريكا بحاجة إلى روحٍ جهادية تدفع الشعوب الإسلامية إلى مواجهة السوفييت دون أن تضطر إلى إرسال جندي واحد، فخلقت — عبر شبكات المال والإعلام والدعوة — ما يمكن تسميته بـ"الوعي الوظيفي"، أي وعيٍ دينيٍ موجَّه يخدم استراتيجية لا يعيها صاحبها.

أفغانستان: الجهاد المبرمج

حين غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان عام 1979، كانت لحظة الذروة لهذا التوظيف. انطلقت الفتاوى من كل صوب، وامتلأت المنابر بخطاب “الجهاد ضد الكفار”، بينما كان التمويل والتسليح يمر عبر أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والخليجية.
تدفّق آلاف الشباب العرب والمسلمين إلى جبال تورا بورا حاملين حلم الانتصار الإسلامي العالمي، لكنهم لم يدركوا أنهم يقاتلون في معركةٍ صُمّمت بدقّة لتكون مصيدةً لخصم واشنطن الاستراتيجي.
وحين انتهت الحرب بانسحاب السوفييت، لم تحتفل أمريكا بنصر الإسلام، بل انصرفت فورًا، وتركت أفغانستان تغرق في حربٍ أهلية. هنا فقط بدأ بعض “المجاهدين” يدركون أنهم لم يكونوا سوى جنودٍ في معركة غيرهم، تُدار بأيديهم وتُحسم على حسابهم.

من أفغانستان إلى الشيشان: تبدّل السردية وثبات الغرض

تكرّر المشهد ذاته في الشيشان. فبينما بدت الحرب كمعركة تحررٍ ديني ضد روسيا، كانت القوى الغربية تتابعها من بعيد، ترى فيها فرصةً لإضعاف موسكو وتشتيت الداخل القوقازي.
غير أن التحول الأهم كان في الخطاب الإعلامي نفسه: فقد غابت اللغة الأمريكية الممجّدة “للمجاهدين”، وحلّ محلها خطاب “الإرهاب الإسلامي” مع سقوط الاتحاد السوفيتي. ما كان يُسمّى جهادًا أصبح فجأةً خطرًا على الحضارة.
تبدّلت التوصيفات، لكن الوظيفة بقيت: استخدام الطاقة الدينية حين تخدم، وتشويهها حين تستقلّ.

بعد 11 سبتمبر: انقلاب الأدوار

أحداث 11 سبتمبر 2001 مثّلت لحظة الانكشاف الكبرى. فالقوة التي غذّت الحركات الجهادية بالأمس، أعلنت اليوم حربًا كونية عليها. تحوّل “المجاهد” إلى “إرهابي”، وتحولت المعسكرات التي أسّستها الاستخبارات الأمريكية في باكستان إلى أهدافٍ للطائرات الأمريكية ذاتها.
في هذه المرحلة، بدأ الوعي يتكوّن داخل دوائر الفكر الإسلامي والسياسي: أن اللعبة لم تكن صدامًا بين الإيمان والكفر، بل بين مشاريع قوة تتقاطع فيها المصالح.
أدرك كثيرون أن الخطاب الديني حين يُدار خارج مشروعٍ حضاري واعٍ، يصبح عرضة للابتلاع والتدوير في ماكينة السياسة العالمية.

قابلية الاستغلال: الجذر العميق

لم يكن الاستغلال ممكنًا لولا وجود قابلية نفسية وتاريخية داخل المجتمعات الإسلامية.
فبعد قرون من الانكسار الاستعماري، ظلّ المسلمون يحملون شعورًا عميقًا بالمهانة والحنين إلى “الخلافة المفقودة”. كانت كل شرارة مقاومة تُشعل في النفوس توقًا إلى الخلاص.
لكنّ هذا التوق لم يجد من يؤطّره بمشروع واقعي. فغابت الرؤية السياسية وحضر الانفعال. وحين تغيب البوصلة، يصبح الصدق الديني نفسه أداة يمكن توجيهها.
القوى الكبرى لم تخلق الحماسة، بل استثمرتها؛ لم تزرع الإيمان، بل وظّفته. ومن هنا جاءت مأساة الوعي المسلم: أن يُستغل بدافع الإخلاص.

بروز الوعي المتأخر

في العقدين الأخيرين، ومع تكرار المشهد في العراق وسوريا وليبيا واليمن، باتت الشعوب أكثر حذرًا.

  • أدركت أن من يموّل الثورة قد يموّل لاحقًا إسقاطها.

  • وأن الخطاب الديني المسلّح قد يكون واجهة لصراعٍ دولي على الغاز أو النفوذ.

  • وأن الغرب لا يخاف الإسلام إلا حين يستقلّ بقراره، لا حين يُستعمل كأداة.

تكوّن إذًا ما يمكن تسميته بـ "الوعي الجهادي النقدي": وعي يفرّق بين مقاومة الاحتلال كفعلٍ تحرري أصيل، وبين خوض حربٍ يُراد بها تحقيق توازناتٍ دولية على أرضٍ عربية أو إسلامية.
هذا الوعي لا ينكر مشروعية الدفاع، لكنه يرفض أن تُدار المعارك باسم الدين لصالح الأجنبي.

نحو فقه جديد: من انفعال الإيمان إلى عقل الإيمان

إن الدرس الذي خرجت به التجارب كلها هو أن النوايا الصالحة لا تكفي، وأن الحماسة الدينية دون إدراكٍ سياسي تنتج كوارث.
لقد آن أوان الانتقال من “فقه الحماسة” إلى “فقه الوعي”، من الانفعال إلى البصيرة.
فالإيمان لا يُقاس بكمية الدماء المسفوكة، بل بمدى البصيرة في اختيار المعركة.
وإذا كان الجهاد في جوهره دفاعًا عن الحياة والكرامة، فإن أخطر ما أصابه هو تحويله إلى وظيفةٍ في أجندات الغير.

خاتمة

تأخّر الوعي الإسلامي، لكنه لم يمت. فالأمة التي خُدعت باسم الجهاد بدأت تُعيد تعريفه. بدأت تفهم أن المعركة الحقيقية ليست بين شرقٍ وغرب، ولا بين دينٍ وكفر، بل بين الاستقلال والوصاية.
وما لم يتحوّل الإيمان إلى وعيٍ استراتيجي، سيبقى التاريخ يعيد نفسه بأسماء جديدة ورايات مختلفة.
لقد آن للمسلمين أن يحرروا "الجهاد" من أيدي من استخدموه سلاحًا ضدهم، وأن يعيدوه إلى معناه الأصيل: تحرير الإنسان من كل سلطةٍ تستعبده — حتى وإن كانت تتحدث باسمه.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.