الشلل الحكومي في الولايات المتحدة.. كشف ما وراء الرواية

دخلت الحكومة الفيدرالية الأمريكية في حالة شللٍ يوم 1 أكتوبر 2025، بعد فشل United States Congress في إقرار تمويلٍ جديد للمصروفات، ما جعلها تتجاوز أطول فترة إغلاق حكومي في تاريخ البلاد. ما بين العناوين الإعلامية التي تقدّم هذه الأزمة باعتبارها “خلافاً بين الحزبين” أو “توقّفاً مؤقتاً” تكمن حقيقة أكثر تعقيداً، تتعلق بتركيب السلطة الفعلية داخل الدولة الأميركية، وديناميات الاقتصاد السياسي التي لا تُروى.

في هذا المقال — سنفكّك الخطاب السائد وراء هذا الحدث، نستعرض دوافعه، نحلّل آليات الأداء وراء المسرح، ونرصد النتائج الفعلية على الواقع الأميركي، بعيداً عن التغطيات المختصرة أو المجتزأة.

1. السياق: لماذا حصل الإغلاق؟

الحدث ليس عشوائياً؛ بل نتج عن معادلة سياسية واقتصادية محدّدة. إذ فشلت السيناتوريات في اعتماد مشروع تمويلٍ تقدّم به مجلس النواب، بعد أن والخلاف توسّع ليشمل تمديد إعانات الضريبة التأمينية (التابعة لـ Affordable Care Act) وإجراءات دعم الغذاء. 

من ثم:

  • أُعلن الإغلاق عند منتصف ليل 30 سبتمبر كجزء من “إجراء تلقائي” (continuing resolution) لم يُجدِ نفعاً. 

  • قرابة 750,000 موظّفاً تقريباً وضعوا في إجازة غير مدفوعة، وآلاف آخرون يعملون دون أجر. 

  • أحد الأبعاد الأقل تداولاً: توجه إدارة الرئيس Donald Trump إلى تجميد تمويل مشاريع مرتبطة ولايات ديمقراطية، ما يعكس أبعاداً جغرافية‑حزبية للقرار.

إذًا، ما يبدو كـ«فشل إجرائي» هو في الواقع أحد صيغ الصراع الداخلي على تموضع الدولة، توزيع الموارد، والتحكّم بالأجندات الاقتصادية — لا مجرد نزاع حول سقف الإنفاق.

2. ما وراء «أزمة إدارية»: الدولة كميدان صراع

أ. الدولة ليست حيادية

القائمون على الدولة الفيدرالية ليسوا موحّداً أو تجميعة مجردة من الصراع؛ بل هي ساحة تُستغل فيها المؤسسات كأدوات سياسية: التمويل يُقطَع، الخدمات تُعلّق، الموظفون يُستخدمون كسلاح ضغطي.

على سبيل المثال: توقف استخراج تمويل برنامج المساعدات الغذائية Supplemental Nutrition Assistance Program (SNAP) هدّد ملايين الأميركيين ذوي الدخل المحدود.  كذلك، أمرت وزارة الميزانية ‎(OMB) الإنفاق بأن “يُنظر في إجراءات فصل” للموظفين في الأنشطة غير الأساسية. 

ب. القضاء: وسيط أم أداة؟

رغم أن القضاء يُفترض أن يكون محايداً، إلا أن التدخّلات القضائية، مثل إصدار أوامر مؤقتة لدفع المساعدات، تُظهِر أنّه جزء من شبكة السلطة؛ هو ليس الحصان الأبيض المنقذ فقط، بل عنصر يمكن استدعاؤه ضمن الصراع لتحريك الأجندة.

ج. الإعلام والرواية: التغطية تُخفي أحياناً تكوّن المشهد

العديد من التغطيات الصحفية سلطت الضوء على “تأخّر الأجور” أو “إلغاء الرحلات الجوية” أو “مئات الرحّلات المُلغاة” دون تعمّق في لماذا يحدث ذلك أصلاً.  هذا التغطير يُحوّل الأزمة إلى مشكلة تقنية/خدمة، بينما في الجوهر هي أداة ضغط وتحكّم ضمن لعبة توزيع سلطة.

3. النتائج المعيشية: ماذا يحدث فعليّاً؟

  • برامج الغذاء وضعها هشّ: تأخر أو تجميد المساعدات يثقل كاهل الأسر الفقيرة. 

  • موظّفو الدولة يتعرّضون لتقلّب في الدخل، ما يقلّص سيولة الأسر ويزيد من تفكّك شبكات الأمان الاقتصادي. 

  • الأبعاد الاقتصادية الأوسع: وفق تقديرات Congressional Budget Office فإنّ الخسارة يمكن أن تصل إلى 7 – 14 مليار دولار من الناتج المحلي إذا استمر الإغلاق لأسابيع.

  • المؤسسات الأساسية مثل الطيران والرقابة البيئيّة تتأثر، ما يُرجّح أن الشلل يتعدى الرأسمال إلى “وظيفة الدولة” نفسها.

4. دلالات جيوسياسية واقتصادية

هذا الفصل في الأزمة يحمل دلالات تتجاوز حدود واشنطن:

  • اقتصاد الدولة‑مؤسساته: تؤكّد الأزمة أن الدولة ليست مجرد إطار إداري، بل موقع توزيعي لموارد استراتيجية، الأطراف المتنافسة تحاول داخلياً تراكماً للنفوذ من خلال تعطيل أو تشغيل مؤسسات الدولة.

  • الهيمنة الأميركية: من منظار خارجي، ضعف المؤسسات الفيدرالية يعنينا أيضاً كمؤشّر على تراجع القدرة الأميركية على ضمان استقرار النظام الداخلي، ما قد يؤثر على قدرتها القيادية في المنظومة العالمية.

  • نموذج الدولة‑الخدمة: الدعوات التقليدية بأن “الدولة تقدم الخدمات وتدير” تواجه اليوم اختباراً عملياً: تعطّل عام يوضح أن هذا نموذج هشّ عندما لا تُهيّأ الدولة لتمويل مستقر أو توازن بين برلمان/رئاسة/أحزاب.

5. خلاصة تحليلية: ماذا ينبغي أن نقرأ؟

  • الإغلاق ليس مجرد خطأ برلماني أو تعطّل مؤقت، بل أحد الأوجُه المكشوفة لصراع السيطرة على الدولة والموارد داخل الولايات المتحدة.

  • الإعلام ما زال يعالج المشهد باعتباره أزمة إدارية أو تعطّلاً مؤقتاً، بينما المطلوب كشف كيف تُستخدَم الآليات الحكومية كورقة تفاوض وتوزيع.

  • من منظور “فروق” نقول: قراءة الأزمة لا تكتفي بتسجيل النتائج، بل ينبغي تتبّع البُنى التي تمكّن هذه النتائج — من تمويل، لقرار، لتعبئة سياسية واقتصادية — لأنّ ما يحدث في واشنطن اليوم هو مثال لحالة أوسع من ضعف الدولة في مواجهة تضاربات القوى، ليس فقط محلياً بل في البُعد العالمي.

 


الإغلاقات الحكومية الأمريكية: مقارنة تاريخية وتحليل نقدي (1981–2025)

شهدت الولايات المتحدة منذ عام 1981 أكثر من عشرة إغلاقات حكومية جزئية أو كاملة، تختلف من حيث المدة، السبب، وحجم التأثير الاقتصادي والاجتماعي. دراسة هذه الإغلاقات عبر الزمن لا تكتفي بتسجيل التاريخ، بل تكشف عن أنماط السلطة، الصراعات الداخلية، واستخدام الدولة كورقة ضغط سياسية واقتصادية.


1. جدول الإغلاقات التاريخية

السنة المدة السبب الرئيسي الموظفون المتأثرون الخسارة الاقتصادية (مليار دولار) الملاحظات التحليلية
1981 2 يوم خلاف على ميزانية الدفاع ~100,000 0.1 بداية أسلوب استخدام الإغلاق كأداة ضغط سياسي بين الرئيس والكونغرس
1984 2 يوم الخلاف على التمويل الداخلي ~250,000 0.2 تصاعد استخدام الإغلاقات لتحريك الأجندات السياسية وليس للأسباب الاقتصادية فقط
1990 3 يوم خلاف ضريبي بين البيت الأبيض والكونغرس ~400,000 0.6 أظهرت العلاقة بين الضرائب والصراع الحزبي
1995-1996 21 يوم + 8 يوم الخلاف على برنامج Medicare والإنفاق الحكومي >800,000 1.7 أطول إغلاق قبل 2025؛ أظهر قدرة الإغلاق على خلق ضغط شعبي واسع
2013 16 يوم التمويل الصحي (Obamacare) ~800,000 2 التأثير على الخدمات العامة والصحة الوطنية كان ملموساً
2018-2019 35 يوم تمويل الجدار الحدودي ~800,000 6 أطول إغلاق في التاريخ حتى وقتها؛ أظهر استخدام الإغلاق كورقة سياسية استراتيجية
2025 مستمر (من 1 أكتوبر) تمويل وبرامج SNAP والمساعدات الصحية ~750,000 7–14 (تقديرات) الإغلاق الحالي أكبر اختبار لتوازن السلطة بين الرئيس والكونغرس، ويؤثر على الاقتصاد والسياق الجيوسياسي العالمي

2. تحليل الأنماط

أ. السبب: أكثر من مجرد خلاف حزبي

معظم الإغلاقات لم تحدث بسبب عجز إداري أو خطأ تقني؛ بل نتيجة صراعات سياسية على:

  • توزيع الموارد.

  • التمويل لمشاريع استراتيجية (الدفاع، الرعاية الصحية، الحدود).

  • اختبار قوة الحزب المسيطر وإعادة توزيع السلطة.

ب. الأثر: الموظف والمواطن كأداة ضغط

الموظفون الحكوميون والأسر المعتمدة على برامج المساعدات يصبحون مباشرة أدوات غير واعية في النزاعات السياسية. الإغلاق يخلق ضغطاً على الكونغرس والرئاسة من خلال التأثير المباشر على المواطنين.

ج. الإعلام: تبسيط الرواية

الصحافة غالباً ما تصوّر الإغلاقات كأزمات تقنية أو عطل إداري مؤقت، متجاهلة البُعد الهيكلي للصراع على الدولة والموارد. هذا يسهّل إعادة إنتاج السلطة دون مساءلة فعلية عن الأسباب العميقة.


3. الرسم البياني التحليلي

[الرسم التوضيحي – Timeline]
Y-axis: مدة الإغلاق بالأيام
X-axis: السنة
|1981|■■
|1984|■■
|1990|■■■
|1995-1996|■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■
|2013|■■■■■■■■■■■■■■
|2018-2019|■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■
|2025|■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■ (مستمر)

ملاحظة تحليلية للرسم البياني:

  • كل خط يمثل مدة الإغلاق، مع تظليل يوضح حجم الموظفين المتأثرين والخسارة الاقتصادية.

  • الاتجاه العام: الإغلاقات تصبح أطول وأكثر تأثيراً على الاقتصاد والمجتمع، ما يعكس تصاعد استخدام الإغلاق كأداة سياسية استراتيجية.


4. الخلاصة النقدية

  1. الدولة ليست حيادية: الإغلاقات التاريخية تكشف أن الحكومة الأمريكية تُوظّف المؤسسات العامة كورقة ضغط، لا كأداة مستقلة لتقديم الخدمات.

  2. الإعلام يغطي الشكل لا الجوهر: معظم التغطيات تصوّر الأزمة على أنها مجرد تعطّل إداري، بينما الواقع هو صراع مستمر على النفوذ والموارد.

  3. الأثر الاجتماعي والاقتصادي متصاعد: مع كل إغلاق، يزداد التأثير المباشر على الموظفين والمواطنين والاقتصاد، بينما تتحوّل الدولة إلى ساحة للنزاع بدلاً من خدمة الشعب.

  4. الدروس المستقبلية: فهم هذه الأنماط مهم لتحليل قدرة الدولة على الاستجابة للأزمات، وإدراك كيف يمكن أن يُستغل الصراع الداخلي لمصلحة نخب محددة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.