
مصر: نقطة الانطلاق والسيطرة المباشرة
بدأ النفوذ البريطاني في مصر مع استثمار قناة السويس، قبل أن يتحول إلى احتلال مباشر عام 1882. سيطرت بريطانيا على الإدارة والجيش والسياسة، وأعادت هيكلة الاقتصاد بما يخدم مصالحها، مع تجاهل الاحتياجات الحقيقية للشعب المصري.
الحرب العالمية الأولى عززت هذا النفوذ، بعد تفكيك الهيمنة العثمانية على المنطقة، بينما شكّلت ثورة 1919 نموذجًا واضحًا لمقاومة الشعب المصري للوصاية البريطانية، دون أن توقف استمرار النفوذ طويل الأمد.
العراق: الدولة التابعة
بعد الحرب العالمية الأولى، ساعدت بريطانيا في إنشاء المملكة العراقية تحت حكم الملك فيصل، لضمان السيطرة على الموارد النفطية والموقع الاستراتيجي. استخدمت بريطانيا المستشارين العسكريين والسياسيين والاتفاقيات الاقتصادية لتحويل الدولة إلى أداة نفوذ، ما ساهم في صراعات داخلية مستمرة وإرث طويل من الاعتماد على الغرب.
فلسطين وإقامة إسرائيل: الوصاية الاستراتيجية
أحد أهم نتائج النفوذ البريطاني كان إنشاء دولة إسرائيل. مع وعد بلفور 1917 والانتداب البريطاني 1920–1948، سهّلت بريطانيا إنشاء المؤسسات الإسرائيلية، متجاهلة الحقوق السياسية للسكان العرب. كانت هذه الخطوة أداة استراتيجية للتحكم في قلب الشرق الأوسط، وتأمين طرق النفط، وخلق حليف دائم. تركت السياسات البريطانية صراعات مستمرة بين العرب وإسرائيل، مستمرة حتى اليوم.
الخليج العربي واليمن وعمان: النفوذ عبر الحماية والتحالفات
في الخليج، اعتمدت بريطانيا على الحماية والتحالفات مع الحكام المحليين والقبائل، بدلاً من الاحتلال المباشر:
-
الإمارات، قطر، البحرين: حماية الموانئ والممرات البحرية مع اتفاقيات سياسية واقتصادية لضمان مصالحها.
-
عمان: دعم السلاطين مقابل السيطرة على الموانئ والممرات البحرية.
-
اليمن الجنوبي: عدن أصبحت قاعدة بحرية استراتيجية، والتحكم بالمناطق المحيطة عبر حكام موالين.
هذا الأسلوب مكن بريطانيا من التحكم الاستراتيجي بعيدًا عن النزاعات الداخلية الكبرى، مع ترك إرث طويل من النفوذ السياسي والاقتصادي بعد الاستقلال.
المغرب العربي: النفوذ المحدود
في المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا)، لم يكن النفوذ البريطاني مباشرًا، بل اقتصر على:
-
المصالح التجارية والدبلوماسية.
-
دعم بعض النخب المحلية بشكل محدود.
-
التنسيق الاستراتيجي مع فرنسا وإسبانيا لمواجهة أي منافسين أوروبيين.
هذا يظهر تباين استراتيجيات النفوذ البريطانية: احتلال مباشر في الشرق العربي، حماية وتحالفات في الخليج واليمن، ونفوذ محدود في المغرب العربي.
أدوات النفوذ البريطانية
بريطانيا لم تعتمد على القوة العسكرية وحدها، بل استخدمت اقتصاد، سياسة، وثقافة لتحقيق السيطرة:
-
اقتصاديًا: سيطرت على الموارد التجارية والنفطية، مع أرباح ضخمة لشركاتها على حساب الشعوب المحلية.
-
سياسيًا: دعمت أنظمة موالية، وفرضت مستشارين وسيطرة استخباراتية.
-
ثقافيًا: نشرت اللغة الإنجليزية والتعليم البريطاني، وأدخلت القوانين الغربية، لتشكيل طبقة نخبوية مرتبطة بالقيم البريطانية.
هذه الأدوات جعلت النفوذ البريطاني أعمق من الاحتلال المباشر، واستمر تأثيره بعد الاستقلال الرسمي.
المقاومة والانحسار
رغم النفوذ القوي، واجهت بريطانيا مقاومة محلية مستمرة: ثورات مصر 1919، الانتفاضات العراقية، مقاومة الفلسطينيين، واعتراضات القبائل في الخليج واليمن.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الانحسار بسبب:
-
صعود القومية العربية.
-
التدهور الاقتصادي لبريطانيا.
-
الضغط الدولي لصالح الاستقلال.
النتيجة: تحوّل النفوذ البريطاني من الاحتلال المباشر إلى تأثير اقتصادي وسياسي غير مباشر عبر الاتفاقيات والتحالفات.
الإرث البريطاني: النتائج الواقعية
التواجد البريطاني في العالم العربي ترك إرثًا متنوعًا:
-
السياسة: أنظمة غالبًا مرتبطة بالغرب، مع ميل للأنظمة المركزية أو الاستبدادية لضمان الاستقرار.
-
الاقتصاد: شبكات تجارية وبنى تحتية تخدم المصالح الأجنبية أكثر من المواطنين المحليين.
-
الصراعات الإقليمية: تقسيم الأراضي (فلسطين، العراق) أدى لصراعات مستمرة.
-
الثقافة والتعليم: الطبقة النخبوية المتعلمة غربية التأثير، ما أثر على القيم والسياسات.
يمكن القول إن النفوذ البريطاني لم يكن مرحلة عابرة، بل نظام طويل الأمد ما زالت آثاره ملموسة على السياسة والاقتصاد والمجتمع العربي.
خاتمة
التواجد البريطاني في العالم العربي كان شبكة متكاملة من النفوذ المباشر وغير المباشر، استخدمت القوة العسكرية، الوصاية، التحالفات الاقتصادية والسياسية، والتأثير الثقافي. رغم انسحاب القوات، ظل الإرث مستمرًا عبر الأنظمة السياسية، الاقتصاد، والبنى الاجتماعية، مع استمرار تداعيات الصراعات التي ساهمت فيها بريطانيا بشكل مباشر أو غير مباشر. دراسة هذا التواجد تكشف أن السيطرة لم تكن مجرد احتلال، بل مشروع طويل المدى لصياغة المنطقة وفق مصالحها الاستراتيجية.
خريطة النفوذ

خريطة ملونة توضح:
- الاحتلال المباشر: مصر، العراق، فلسطين.
- الحماية والتحالفات: الخليج العربي، عمان، اليمن الجنوبي.
- النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي المحدود: المغرب العربي.