
أولًا: كيف تتحوّل الجغرافيا إلى أداة قرار؟
في اليمن، بدأت الشرارة داخلية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مسرح تنازع إقليمي؛ كل طرف يدعم فصيلًا لكي يحصل لاحقًا على موطئ قدم على الأرض. ما عاد سؤال الحرب: "من يحكم اليمن؟" بل أصبح:
من يرسم شكل اليمن القادم؟ ومن يُمسك بمفاتيح موانئه ومضائقه؟
في السودان، الصراع ليس مجرد تنافس على السلطة بين قوات مسلحة، بل سباق محموم للسيطرة على مواقع حساسة: الموانئ، المناجم، الممرات التجارية. فكل طرف خارجي يدعم قوة محلية بهدف ضمان نفوذ طويل الأمد في دولة تملك موقعًا استراتيجيًا استثنائيًا بين البحر الأحمر ووسط أفريقيا.
ثانيًا: الحروب بالوكالة ليست مؤقتة
في المشاريع التقليدية، الدعم الخارجي ينتهي بانتهاء الحرب. لكن في اليمن والسودان، تظهر استثمارات طويلة الأمد:
موانئ تُوقّع عقود تشغيلها لثلاثة عقود قادمة.
قواعد عسكرية تُنشأ بلا إعلان رسمي.
مناجم تُمنح امتيازاتها في غمرة النيران.
هذا يثبت أن التدخل ليس لوقف حرب، بل لاستثمارها سياسيًا واقتصاديًا.
ثالثًا: اللاعب الإماراتي نموذجًا
لا يمكن فهم المشهد بدون التوقف عند الإمارات بوصفها قوة اقتصادية تسعى للتحول إلى لاعب جيوسياسي.
في اليمن:
- سعي للسيطرة على باب المندب وموانئ الجنوب.
- دعم قوى محلية منفصلة عن السلطة المركزية.
- هندسة خرائط النفوذ عبر التجزئة بدل الوحدة.
في السودان:
- اهتمام معلن بالذهب والموانئ والممرات البحرية.
- دعم طرف على حساب آخر لإعادة تشكيل توازن القوى الداخلية وفق مصالحها.
السؤال ليس: لماذا تتجرأ الإمارات؟
بل: من يغطي هذه الجرأة؟
الغطاء دائمًا يأتي من مظلة الحلف الأمريكي – الإسرائيلي في المنطقة.
والمنطق واضح:
كل نفوذ إماراتي = نفوذ إضافي في يد واشنطن دون مواجهة مباشرة.
رابعًا: لماذا تقف واشنطن خلف الستار؟
السياسة الأمريكية في المنطقة تمر بمرحلة خفض التكلفة ورفع السيطرة.
بدلًا من التدخل العسكري المباشر، تفضّل:
- إدارة النفوذ عبر حلفاء مُطيعين
- التأثير غير المرئي الذي يحقق الهدف دون أن تتحمل المسؤولية
هذا الأسلوب يمنحها:
- قدرة على إسناد تدخلات لا ترغب في الظهور فيها
- قابلية إنكار المسئولية عن النتائج
- سيطرة استراتيجية على أهم موارد ومنافذ المنطقة
لذلك تتحول الإمارات إلى:
ذراع تنفيذية في هندسة السياسة الداخلية للدول الهشّة.
خامسًا: أين الحكومة والشعب في الحسابات؟
في النموذج الأصلي للدولة الوطنية، القرار ينبع من الداخل.
أما في نموذج الحرب بالوكالة:
- القرار يُصنع خارج الحدود
- الشعب يُختزل في موقع تابع
- السلطة تُمنح لمن ينسجم مع خطط الوصاية
تصبح البلاد كيانًا سياسيًا مصمّمًا من الخارج، ثم يُفرض على الداخل بحجّة "الاستقرار".
سادسًا: ما الذي يجعل اليمن والسودان مسرحًا مثاليًا لهذه الهيمنة؟
ثلاثة عوامل كبرى:
- الهشاشة السياسية: انتقال ديمقراطي غير مكتمل
- الاقتصاد الريعي: ثروات هائلة بلا منظومة حماية وطنية
- الجغرافيا النادرة: مواقع استراتيجية تدخل في حسابات القوى البحرية العالمية
حين تجتمع هذه العوامل، يكون السؤال:
من يستفيد من الفوضى؟
الجواب: من يملك القدرة على الاستثمار فيها.
سابعًا: الحرب ليست الهدف... بل النتيجة
يُظن دائمًا أن الحرب وسيلة للوصول إلى السلطة؛
لكن في هذه الحالات:
السلطة تُعاد تشكيلها لكي تبقى الحرب قابلة للاستدعاء متى اقتضت المصالح.
البلاد تُدار وفق معادلة:
- لا انتصار حاسم
- لا هزيمة نهائية
- استمرار انقسام يبرر تدخلًا دائمًا
هذه ليست حربًا من أجل السلطة
بل سلطة من أجل الحرب.
ثامنًا: مستقبل اليمن والسودان في ظل هندسة الخارج
إذا استمر المسار على حاله، فالمستقبل يتشكل وفق نموذجين خطيرين:
النموذج الأول: الدولة المُتجزِّئة
كيانات محلية مستقلة بارتباط اقتصادي مع الخارج
→ قرار ممزق
→ سيادة منتهكة
النموذج الثاني: الدولة الوكيلة
سلطة تبدو وطنية
لكنها تنفّذ أجندة الحليف المموّل.
في الحالتين:
الشعب يخرج من المعادلة
والوطن يصبح ورقة مساومة في لعبة دولية.
خاتمة
إن ما يجري في اليمن والسودان ليس حربًا على شكل الدولة فقط، بل على من يملك حق تعريف الدولة.
والمعادلة اليوم تقول:
كلما ضعف الداخل، اشتد الخارج
وكلما تمزقت الإرادة الوطنية، ازدهرت مشاريع الوصاية
الحل الحقيقي لا يبدأ من الاتفاقيات التي ترعاها العواصم المتدخلة، بل من إعادة بناء السلطة على أساس المصلحة الوطنية لا على خطوط التمويل الخارجي. فالشعوب التي تحرم من قرارها لن تنال الاستقرار حتى لو توقفت المدافع؛ لأن الاستقرار السياسي لا يُستورد، بل يُصنع في الداخل.