
أولًا: الخرطوم.. عاصمة تُدار من الخارج؟
منذ سقوط نظام البشير، لم تُمنح القوى المدنية فرصة لصناعة انتقال سياسي طبيعي. بدلًا من ذلك:
- تصاعد نفوذ العسكريين
- وتحوّل القرار السياسي إلى هندسة خارجية
- وتغيّر التمثيل الوطني بموجب مصالح لا علاقة لها بإرادة الشعب
باتت المفاوضات تُجرى في فنادق خارج البلاد
وتُرسم الحلول في غرف مغلقة
وكأن السودان ساحة خالية من أهلها.
ثانيًا: لماذا السودان تحديدًا؟
يمتلك السودان ما يجعله هدفًا مثاليًا للتدخل:
- ثروات طبيعية ضخمة: ذهب، زراعة، معادن نادرة
- بوابة إلى أفريقيا الغنية بالمستقبل الاقتصادي
- موقع بحري حساس على البحر الأحمر
- هشاشة سياسية تسهّل التحكم بصناع القرار
هذه المعادلة تجعل القوى الخارجية ترى السودان ليس دولة بحاجة إلى دعم، بل غنيمة يجب اقتسامها دون إعلان.
ثالثًا: تعدد الرعاة.. وتفكك القرار
الجيش والدعم السريع ليسا وحدهما في الميدان.
خلف كل طرف راعٍ إقليمي يسعى إلى:
- ضمان نفوذ طويل الأمد
- السيطرة على الموارد والموانئ
- توجيه مسار السلطة المستقبلية
في كل جولة تفاوض يظهر سؤال حاسم:
هل القرار يتخذ في الخرطوم؟
أم في أبوظبي والرياض والقاهرة وتل أبيب وواشنطن؟
كلما تعددت الأيادي على الملف،
فقدت الخرطوم يدها.
رابعًا: الرؤية الإماراتية.. نفوذ بواجهات اقتصادية
الإمارات ترى السودان من زاويتين:
- ثروات تحت الأرض: الذهب والمعادن
- موانئ فوق الأرض: بوابة تجارة دولية
- دعم قوى قادرة على تقديم امتيازات طويلة الأمد
- تأمين موطئ قدم على البحر الأحمر
- صناعة سلطة مرنة سياسيًا وصلبة في المصالح
فلا غرابة أن يكون حضورها في الأزمة اقتصاديًا في الشكل.. سياسيًا في الجوهر.
خامسًا: مصر.. الحليف الذي لا يريد التغيير
القاهرة ترى مستقبل السودان امتدادًا لبنيتها الأمنية:
- الحفاظ على سد النهضة كورقة ضغط
- إبقاء السودان مستقرًا ولكن غير قوي
- دعم المؤسسة العسكرية الرسمية بوصفها ضمانًا ضد الفوضى
لكن هذا الدعم حين يخرج عن سياقه يصبح وصاية تتقاطع مع الطموحات الوطنية السودانية.
سادسًا: واشنطن.. الإدارة بالتحكم عن بُعد
السياسة الأمريكية في السودان مبنية على مبدأ:
لا نريد استقرارًا نهائيًا.. بل استقرارًا قابلًا للتحكم
ولا يُفهم ذلك إلا بما يتوازى مع:
- حماية المصالح في البحر الأحمر
- احتواء نفوذ الصين وروسيا في أفريقيا
- ضمان عدم تقدم أي قوة محلية خارج السيطرة
النتيجة:
ملف السودان يُدار من بعيد بخرائط تقسيم ناعمة.
سابعًا: الخرطوم بين قوتين.. لا دولة واحدة
حين يتقاسم العسكريون مراكز النفوذ بدل الدولة:
- تُصبح الشرعية سلعة للبيع
- ويغدو القانون غائبًا
- ويتصدّع الكيان الوطني بتصدع مراكز القوة
المؤسف أن القوى الخارجية لا تستعجل الحل
لأن استمرار الانقسام يمنحها ما تريد:
- قوى تسهّل التفاوض على الموارد
- سلطة مرتهنة في لحظة التوقيع
- أمة منشغلة بالنجاة بدل السيادة
ثامنًا: المواطن.. الغائب الأكبر
من يدفع ثمن صراع العواصم؟
- الملايين الذين نزحوا من بيوتهم
- اقتصاد انهار بالكامل
- خدمات أصبحت رفاهية
- وطن تحوّل إلى خريطة تُعاد صياغتها كل يوم
لا صوت يُسمع إلا صوت السلاح
ولا إرادة تُحترم إلا إرادة التمويل
ولا حرية تُمنح إلا بقدر الولاء للراعين.
تاسعًا: كيف يُستعاد القرار؟
انتزاع القرار الوطني لا يكون:
- لا بحرب جديدة
- ولا بتفاهمات خلف الأبواب المغلقة
- ولا بتشكيلات عسكرية تحمل أجندة الخارج
بل يبدأ من:
- إعادة بناء شرعية سياسية من الداخل
- وقف الرهان على التحالفات الخارجية
- تمكين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني دون وصاية
- تحويل الثروة إلى مصدر قوة وطنية لا نقطة ضعف
فالدولة القابلة للشراء
ستبقى قابلة للبيع.
خاتمة
القضية في السودان اليوم ليست من يحكم، بل:
من يملك الحق في منح الحكم؟
والمعادلة تقول:
ما دام القرار مرتهنًا، ستبقى البلاد ساحة نفوذ لا دولة ذات سيادة
وما دام الخارج هو المُصمم، سيبقى الداخل منفّذًا لا مُقررًا
السودان لا يحتاج إلى تسوية تُرضي العواصم
بل تسوية تُعيد للشعب حقه في أن تكون الخرطوم مقر القرار لا مرسله.