
الاستهلاك كهوية بديلة
لم يعد الاستهلاك مجرد تلبية لحاجة، بل أصبح وسيلة لإثبات الذات، وصياغة الهوية، وقياس القيمة الشخصية. الفرد يُعرّف بما يملك: نوع هاتفه، سيارته، ملبسه، وحتى الأماكن التي يتردد عليها. وبقدر ما يبدو هذا النمط من الحياة اختياريًا، فهو في حقيقته مفروض ثقافيًا عبر الإعلانات، وسائل التواصل الاجتماعي، والضغط العام. يتشكل بذلك عالم تهيمن عليه "الأشياء"، ويتراجع فيه حضور المبادئ كالبساطة، القناعة، والمسؤولية.
التنافس: من الحافز إلى الاستنزاف
في الأصل، يُفترض أن يكون التنافس محرّكًا للتطور والتحسين. غير أن التنافس في ثقافة اليوم انحرف عن غايته البنّاءة، ليصبح مصدر قلق دائم، وشعور مزمن بالنقص، إذ لا نهاية له، ولا معيار واضح للنجاح فيه. الكل يتسابق، لكن نحو ماذا؟ في غياب أهداف سامية تتجاوز الفرد، يتحوّل التنافس إلى غاية بذاته، فتُهدر الطاقات في التفاخر، وتُقاس القيمة بالمظاهر، لا بالجوهر.
فراغ الأهداف الأخلاقية: الجذر الخفي
السبب الجوهري في تضخم ثقافة الاستهلاك والتنافس يعود إلى فراغ في الأهداف الأخلاقية. حين يتراجع الإيمان بالقيم الكبرى — كالإحسان، العدالة، التضامن، والإيثار — تنسحب المعاني العميقة من الحياة، ليحل محلها اللهاث خلف المكاسب السريعة والصور اللامعة. ومع هذا الفراغ، تفقد الأعمال معناها، والعلاقات عمقها، ويشعر الإنسان بوحدة داخلية رغم كثافة التواصل الظاهري.
أمثلة معاصرة تُجسد الظاهرة
-
وسائل التواصل الاجتماعي: في منصات مثل إنستغرام أو تيك توك، أصبح العرض الاستهلاكي هو اللغة السائدة: السفر، الملابس، الحياة الفاخرة. تُقاس قيمة الفرد بعدد الإعجابات، ويُصاب بالإحباط إن لم يُظهر مستوى "النجاح" المفترض.
- الماركات والمنتجات الفاخرة: في بعض المجتمعات، أصبح امتلاك ماركة معينة معيار "الاحترام"، حتى لو كان ذلك على حساب أولويات معيشية. المظهر يطغى على الجوهر، ويُستبدل احترام الذات بالاستهلاك.
- التعليم كتسابق على الشهادات: تحوّل التعليم إلى وسيلة لتحقيق تفوق شكلي، لا تكوين وعي أو التزام مجتمعي. تُفرغ الشهادات من معناها عندما لا ترتبط بقيم أو رؤية مجتمعية.
- شركات الأزياء السريعة: تنتج هذه الشركات كميات ضخمة لتُشبع رغبة زائفة بالتجديد. لا تُراعى ظروف العمل ولا البيئة، ويُصبح "الاستهلاك الأخلاقي" مصطلحًا هامشيًا أمام إغراء العروض والموضة.
- صنّاع المحتوى ومؤثرو الفراغ: في عوالم اليوتيوب والتيك توك، يُقدَّم محتوى سطحي هدفه الجذب لا القيمة. أصبح بعض "المؤثرين" رموزًا للنجاح، فقط لأنهم يتقنون بيع الوهم.
مجتمع مرهق وأفراد بلا معنى
حصيلة هذا المشهد ليست فقط في ازدياد الضغوط النفسية، بل في اتساع الهوة بين ما يملكه الإنسان وبين ما يشعر به. فكلما امتلك أكثر، شعر بالفراغ أكثر، لأن الأشياء لا تملأ ما تتركه القيم حين تغيب. وتتحول الحياة إلى سلسلة من الإنجازات التي لا تُرضي، والمقارنات التي لا تنتهي.
نحو استعادة التوازن
التحرر من هذه الدوامة لا يعني رفض الاستهلاك أو التنافس في حد ذاتهما، بل إعادة توجيههما في إطار أخلاقي: أن يُستهلك ما يحتاجه الإنسان لا ما يُملى عليه، وأن يكون التنافس وسيلة لبناء الذات لا تحطيم الآخرين. لا يمكن استعادة المعنى إلا بالعودة إلى سؤال "لماذا؟": لماذا أعمل؟ لماذا أشتري؟ لماذا أتنافس؟ وحين تتقاطع الإجابات مع قيم تتجاوز الذات، تبدأ الحياة باستعادة اتزانها، ويعود للإنسان شعور بالامتلاء لا توفره الماركات، بل تمنحه القيم.