
كان الندوي يرى أن الإسلام لم يكن يومًا دعوة قومية أو محلية، بل رسالة عالمية تحمل في جوهرها خلاصًا للإنسانية من الظلم والانحراف. ومن هذا المنطلق، رسم في كتابه صورة للعالم قبل الإسلام حيث كانت تسوده الوثنية والظلم، ثم صوّر كيف أن صعود المسلمين غيّر هذا الواقع، وكيف أن سقوطهم أعاد البشرية إلى مسارها المظلم.
الندوي لم يكتب من موقع الحنين فقط، بل من قناعة بأن غياب المسلمين عن دورهم الحضاري ترك فراغًا قاتلًا، استُبدل بأنظمة مادية فاقدة للبوصلة الأخلاقية.
وانطلاقًا من هذا المنظور، يمكن أن نحلل الخسائر التي مُني بها العالم نتيجة هذا السقوط، ليس فقط على مستوى المسلمين، بل على مستوى الإنسانية جمعاء:
انهيار ميزان العدالة العالمية
حين كان للمسلمين دور حضاري فاعل، كانت العدالة قيمة حية في نظم الحكم، تشمل غير المسلمين، وتُمارس بمعايير تتجاوز العِرق والدين. لكن مع تراجع هذا الدور، تصدّرت القوى التي تتعامل مع العدالة كأداة نفعية، فاختل الميزان، وساد منطق "القوة هي الحق"، ما أدى إلى استعمار الشعوب، وقهر الضعفاء، وتشريع الازدواجية في التعامل مع القوانين الدولية.
انحسار منظومة الأخلاق في السياسة والاقتصاد
كان الاقتصاد الإسلامي قائمًا على الزكاة، وتحريم الربا، والتكافل الاجتماعي، مما أحدث نوعًا من التوازن بين الثروة والعدالة. لكن بعد أفول هذه المنظومة، برز النظام الرأسمالي المتوحش، الذي جعل الثروة تتركز في أيدي القلة، وأدى إلى اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وانتشار الفساد المالي، واستعباد الشعوب عبر القروض الدولية.
غياب الرؤية التوحيدية للعلم والحياة
في ظل الحضارة الإسلامية، كان العلم يسير جنبًا إلى جنب مع الإيمان، والبحث العلمي متصلًا بأسئلة الغاية والمعنى. سقوط المسلمين أفسح المجال لعلمٍ مادي منفصل عن الأخلاق، فتحوّل التقدم التكنولوجي إلى سيف ذي حدين، واستُخدم في الحروب، والتجسس، والسيطرة على الشعوب، بدلًا من أن يكون وسيلة لارتقاء الإنسان.
فقدان نموذج حضاري بديل
مثّلت الحضارة الإسلامية نموذجًا فريدًا للتعدد والتعايش، حيث عاش تحت حكمها المسلمون واليهود والمسيحيون وسائر الأعراق دون ذوبان أو صراع. ومع سقوطها، لم يُبقَ للعالم نموذجٌ قادرٌ على تجاوز الانقسامات القومية والطائفية. ظهر عوضًا عن ذلك عالمٌ ممزق، يتبنى صراعات الهويات، وتغذّيه نزاعات النفوذ لا القيم.
اختلال ميزان القوى العالمية
أسهم انحطاط المسلمين في صعود قوى استعمارية أعادت تشكيل خرائط العالم لخدمة مصالحها. لم يعد ميزان القوى مبنيًا على الحق أو المبادئ، بل على السيطرة الاقتصادية والعسكرية، مما كرّس نظامًا عالميًا غير عادل، يتعامل بازدواجية صارخة، ويتجاهل معاناة الشعوب المستضعفة، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
تشويه صورة الإسلام كرسالة إنقاذية
مع تراجع الدور الحضاري للمسلمين، سُمح للصور النمطية أن تطغى، فبات الإسلام يُقدَّم على أنه دين عنف وتأخر، بدلًا من كونه رسالة رحمة وتحرير. وفقد العالم فرصة الاطلاع على نموذج بديل عن الحداثة الغربية، يعيد التوازن بين القيم والوسائل، وبين المادة والروح.
خاتمة
الخسارة التي أصابت المسلمين بسقوطهم كانت ثقيلة، لكن الخسارة الأكبر كانت للعالم، الذي فقد حضارة قادرة على موازنة القوى، وتقديم نموذج قيمي متكامل. إن استعادة هذا الدور لا تعني عودة الهيمنة، بل عودة الشهادة على الناس، كما أرادها القرآن:
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
