
فهل نحن أمام مشروع استراتيجي لإعادة تشكيل الحدود غير المعلنة لما بعد الاتحاد السوفييتي؟ وهل تمتلك تركيا ما يكفي من القوة الناعمة والصلبة لتحقيق ذلك؟
الإرث التركي: حلم "العالم التركي" في عباءة حديثة
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تُخفِ تركيا رغبتها في توسيع علاقاتها مع الجمهوريات ذات الأصول التركية مثل كازاخستان، أوزبكستان، قرغيزستان، وتركمانستان.
لكن هذه الرغبة بقيت محصورة في الشعارات حتى السنوات الأخيرة، حين بدأت أنقرة تُفعّل أدواتها من خلال منظمة الدول التركية، وتعزز من حضورها في الثقافة والتعليم والإعلام.
الهوية المشتركة بين شعوب تركية الأصل تُستخدم الآن كجسر لا كأمنية، وكأداة جيوسياسية أكثر منها عاطفية.
الانسحاب الروسي البطيء: فراغ يبحث عن بديل
مع انشغال روسيا بحربها الطويلة في أوكرانيا، وتراجع ثقة بعض جمهوريات آسيا الوسطى في المظلة الأمنية الروسية، بدأ الفراغ الاستراتيجي يتوسع.
تركيا، وهي عضو في الناتو، لكنها في الوقت نفسه شريك متعدد الاتجاهات، رأت في هذا الفراغ فرصة لإعادة التموضع.
هي لا تعلن عداءً لموسكو، لكنها تُقدّم نفسها كخيار ثالث: لا هو الغرب الذي يُخيف النخب التقليدية، ولا هي روسيا التي باتت عبئًا سياسيًا واقتصاديًا.
الاقتصاد طريق النفوذ: خطوط الغاز والسكك الحديدية
التمدد التركي ليس رمزيًا فقط، بل يمر عبر مشاريع بنية تحتية ضخمة:
- خطوط نقل الطاقة العابرة لبحر قزوين
- سكك حديدية تربط الصين بأوروبا عبر تركيا
- استثمارات مباشرة في مجالات الاتصالات، والبنوك، والبناء
هذه المشاريع تعزز موقع تركيا بوصفها حلقة وصل بين آسيا وأوروبا، وتخلق اعتمادًا متبادلاً يجعل انفصال جمهوريات آسيا الوسطى عن روسيا أكثر احتمالًا.
إيران والصين.. المنافس الصامت
ليست روسيا وحدها من تراقب النفوذ التركي بتوجّس.
الصين، التي تمتلك نفوذًا اقتصاديًا هائلًا في آسيا الوسطى، لا ترى في تركيا مجرد فاعل اقتصادي، بل فاعل ثقافي يحمل طموحًا عابرًا للحدود، ويملك خطابًا دينيًا يمكن أن يؤثر على مسلمي الإيغور، أو على الاستقرار الحدودي في إقليم شينجيانغ.
إيران من جهتها ترى في التمدد التركي خطرًا على مناطق النفوذ الشيعي، خصوصًا في أذربيجان، وتُراقب عن كثب تطور العلاقات بين تركيا وجمهوريات ذات طابع سني أو تركي.
الإسلام المعتدل بوصفه خطاب تصدير
تركيا، بعكس السعودية أو إيران، لا تُصدر مذهبًا دينيًا، بل تقدم نموذجًا إسلاميًا محدثًا متصالحًا مع الدولة، والحداثة، والتكنولوجيا.
هذا النموذج جذاب لنخب آسيا الوسطى التي تخشى التطرف لكنها تريد الحفاظ على الهُوية الدينية لشعوبها.
الخطاب التركي في هذا السياق هو جزء من النفوذ، وليس مجرد سياسة داخلية.
هل تملك تركيا القوة الكافية للاستمرار؟
رغم الطموحات، تواجه تركيا تحديات داخلية واقتصادية قد تعيق قدرتها على الاستمرار في هذا التوسع:
- تراجع العملة التركية
- التضخم
- الصراعات الإقليمية على أكثر من جبهة (سوريا، ليبيا، شرق المتوسط)
لكن أنقرة تراهن على أن النفوذ الثقافي واللغوي لا يحتاج لجيوش، بل يحتاج إلى صبر، واستمرارية، وشبكات علاقات ممتدة.
في الختام: تركيا لا تستعمر.. بل تربط
النفوذ التركي في آسيا الوسطى ليس استعمارًا جديدًا، بل ربطٌ لهويات مقطوعة بفعل الاستعمار السوفييتي القديم.
إنه مشروع لا يسعى لفرض السيطرة، بقدر ما يسعى لإعادة تشكيل الفضاء الثقافي والسياسي وفق مصلحة تركية، وبطريقة أكثر مرونة من أدوات الهيمنة التقليدية.
في النهاية، قد لا ترسم تركيا حدودًا جديدة على الخرائط، لكنها بالتأكيد تعيد رسم الاصطفافات، وتحرّك التاريخ بلغة يفهمها الجميع: اللغة التي تربط لا تفصل.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
