
في زمنٍ تحوّل فيه الدين إلى طقوس شكلية، والثورة إلى شعارات بلا معنى، ظهر رجلٌ يحمل كتابًا في يد، ومشرطًا في الأخرى. لم يكن واعظًا، ولم يكن ثوريًا بالمعنى الكلاسيكي، بل كان منفجّر المعنى في زمن الركود، وناحت القوالب القديمة حين نطق.
علي شريعتي، لم يكن يخطب في الناس بل كان يُمزّق المسافة بين العبد وربّه، بين الجماهير وخلاصها. صرخ: "ارجعوا إلى عليّ لا إلى من تاجروا باسمه، وعودوا إلى الحسين لا إلى مواسم بكائه".
كان عدوّه الأول ليس السلطة فحسب، بل الاستسلام للموروث حين يصبح حجابًا عن الروح.
ولد شريعتي من رحم الفقر، لكنه قرأ العالم كما لو أنه ابن الحضارات كلها. درس في فرنسا، حيث التقى بالفكر الغربي، لا لينسخ، بل ليُفكّك، ويُعيد بعث الذات الإسلامية من جديد.
كان يرى أن الاستعمار ليس فقط جيوشًا، بل أفكارًا سكنت العقول، وأن الشعوب لا تُستعمر حتى تُهزم داخليًا أولًا.
كان مشروعه إعادة تعريف الدين لا كمؤسسة، بل كحركة تحرر.
قالها صراحة: "التشيّع الحقيقي هو ثورة، لا مراثي".
وكان يعرف تمامًا أن هذا النوع من الكلام يقتل.
ولم يكن يخاف.
شريعتي لم يكن في صف رجال الدين، ولا في صف التنويريين المستغربين، بل في نقطة محرّمة بينهما. لذلك كُفّر من هؤلاء، واتُّهِم من أولئك.
لكنه لم يكن يسعى للإجماع، بل للانفجار. لأن الأمة – كما آمن – لا تنهض بالترقيع، بل بالرجّ العميق للذات النائمة.
مات شريعتي في عزّ صعوده، في لندن، وهو يستعد للعودة إلى وطنه، فوجدوه جثة على الأرض، وبقلم في الجيب. قيل تسمم، وقيل اغتيال، وقيل غير ذلك.
لكن الحقيقة الوحيدة أن من يكتب بهذا الصدق… لا يُسمح له أن يعيش طويلًا.
لقد مات شريعتي، لكن أفكاره خرجت من القبر.
ولم يكن دخوله للساحة الدينية مشروع إصلاح، بل مشروع تفجير الصمت.
وهذا أخطر ما يمكن أن يفعله رجلٌ في زمن السقوط.
سلسلة: رجال من زمن السقوط