إسرائيل: الغرور الاستراتيجي والانتحار السياسي.. طوفان الأقصى

ليست حرب "طوفان الأقصى" مجرد صدام مسلح ضمن حلقة من حلقات النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بل هي لحظة كاشفة لأزمة أعمق: أزمة مشروع سياسي فقد البوصلة الأخلاقية، وبدأ يرتكب ما يُشبه الانتحار الدولي المغلّف بلغة التفوّق. فإسرائيل، التي طالما تباهت بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، ظهرت في هذه المعركة كمجرّد آلة قتل لا تملك من الشرعية إلا فائض القوة، ولا من الرؤية إلا الغطرسة.

حين يتحوّل الذكاء إلى حماقة: فهم أعمق لسلوك القوة

من السذاجة أن نُفسر ما حدث في طوفان الأقصى على أنه مجرد فشل استخباراتي أو حماقة عسكرية عابرة. إسرائيل ليست كيانًا بدائيًا يتخبّط في الظلام، بل تملك واحدة من أكثر المؤسسات الأمنية تطورًا في العالم، وتعمل بتنسيق عميق مع القوة الأعظم على الكوكب: الولايات المتحدة.

لكن هذا لا يجعلها محصّنة من الخطأ. بل العكس، فحين تمتزج القدرة التقنية الفائقة مع الشعور بالتفوق العرقي والديني، تتولّد عقلية استعمارية مغرورة تعتقد أنها قادرة على إعادة تشكيل العالم على هواها، ولو بالقوة. وهنا تحديدًا تقع الحماقة الكبرى: حماقة من يظن أنه أذكى من التاريخ، وأقوى من الذاكرة، وأقدر على كسر الشعوب وإخضاع الوعي إلى الأبد.

الردع الدموي كمنطق استراتيجي... لكنه انكسر

منذ نشأتها، بنت إسرائيل أمنها القومي على منطق "الردع"، أي ترسيخ صورة الدولة التي لا تُمسّ دون دفع ثمن باهظ. لكن طوفان الأقصى شكّل صدمة لهذه العقيدة، فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في تنفيذ عملية نوعية أربكت المنظومة الإسرائيلية من الداخل، وأظهرت أن الدولة التي تدّعي امتلاك اليد العليا ليست محصّنة.

ما تلا ذلك من رد إسرائيلي على غزة لم يكن خطة عسكرية بقدر ما كان انفجارًا انتقاميًا هدفه استعادة صورة الردع، حتى على جثث الأطفال وأطلال المستشفيات. لكن هذا الرد، رغم دمارِه الهائل، لم يُنتج نصرًا سياسيًا، بل عمّق الانكشاف الأخلاقي، ووسّع رقعة السخط العالمي حتى داخل الدول الداعمة.

الإعلام لا يستطيع إخفاء المجازر بعد اليوم

لطالما لعب الإعلام الغربي دور الحارس السردي لصورة إسرائيل، محوّلًا المجازر إلى "دفاع عن النفس"، والضحايا إلى "دروع بشرية". لكن في عصر الهواتف الذكية، لم يعد ممكنًا احتكار السرد. الصور المتدفقة من غزة تجاوزت الجدران، واخترقت الروايات الرسمية، وجعلت الشعوب الغربية ترى بأعينها ما حاولت حكوماتها التغطية عليه.

هذه الفجوة بين "ما ترويه الحكومات" و"ما تراه الشعوب" أضعفت الحلف الداعم لإسرائيل من الداخل، وأجبرت كثيرًا من الساسة على التراجع، أو الصمت، أو المناورة. وهو ما يعني أن آلة العلاقات العامة الإسرائيلية لم تعد كافية لإخفاء الجريمة.

الارتداد الأخلاقي على الغرب: الضحية تكشف القاتل

ما ميّز هذه الحرب أنها لم تُخرج إسرائيل من الشرعية الأخلاقية فحسب، بل أحرجت الغرب نفسه. الملايين خرجوا في شوارع باريس ونيويورك ولندن يصرخون: كفى! ليس تضامنًا مع تنظيمات مسلحة، بل رفضًا لسلوك همجي لا يليق بدولة تدّعي الحداثة.

فمن كان يظن أن إبادة شعب أعزل في 2024 يمكن تبريرها بخطاب "الحرب على الإرهاب" وجد نفسه في مواجهة ضمير عالمي بدأ يستيقظ. والنتيجة: تساقط الأقنعة، واهتزاز التحالفات، وتصدّع الخطاب الغربي الداعم للاحتلال.

الداخل الإسرائيلي: أزمة هوية لا تُداويها الحرب

أما في الداخل، فالأزمة أعمق. إسرائيل تشهد انقسامًا داخليًا غير مسبوق، بين يمين ديني متطرف يقود البلاد نحو الفاشية، ومجتمع بدأ يتساءل بمرارة: إلى أين نمضي؟ لقد راهن نتنياهو على الحرب للهروب من مأزقه القضائي، لكنها تحوّلت إلى مرآة فاضحة لأزمات الكيان: أزمة شرعية، أزمة ثقة، وأزمة تصور للعلاقة مع الفلسطينيين والعرب والعالم.

لم يعد بالإمكان إخفاء الأسئلة الكبرى: هل يمكن لدولة أن تستمر إلى الأبد على أساس القوة فقط؟ هل يمكن لفكرة استيطانية أن تعيش في بحر من الرفض الشعبي دون أن تغرق؟ هل يدرك قادتها أن العالم الذي منحهم الضوء الأخضر ذات يوم بدأ يغيّر نظرته؟

الخلاصة: النهاية لا تأتي من الخارج فقط، بل من الداخل أيضًا

ما نراه اليوم ليس فقط نتائج حماقة عسكرية، بل أعراض مشروع يتآكل من داخله، لأنه لم يترك مساحة لحل، ولا فسحة لعدالة، ولا مكانًا للتعايش. إسرائيل تسير بثقة إلى الأمام، لكن على جسر من الكذب، فوق نهر من الدم، وبين جدران من الغرور. وقد ظنّت أن الزمن ملكها، فإذا به يشهد ضدها.

لقد تحوّل الذكاء إلى غرور، والردع إلى وحشية، والدعم الدولي إلى ورطة. وبينما تتراكم المجازر، يتآكل ما تبقى من شرعية سياسية. وهنا، لا يبدو الانتحار السياسي خيارًا مجنونًا، بل نتيجة منطقية لسياسة انتحارية في جوهرها.


وصف الصورة المقترحة: صورة رمزية لخريطة إسرائيل على شكل كيان زجاجي متشقق من الداخل، تقف فوق برميل بارود مشتعل، ومن حولها مظاهرات عالمية ترفع لافتات ضد الإبادة، بينما تسقط منها شرارات تشتعل في خرائط العلاقات الدولية.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.