أدوات إنتاج السردية
حين يُقال إن الإعلام يُضلّل، يتبادر إلى الذهن مباشرة: الكذب، التحريف، تزوير الصور.
لكن الواقع أخطر من ذلك بكثير.
الإعلام لا يحتاج إلى الكذب الصريح كي يُضللك.
يكفي أن يعرف كيف يُرتّب الحقائق، كيف ينتقي الزاوية، وكيف يصوغ الحدث في قالبٍ روائي لا تراه لكنه يُشكّل فهمك من الداخل.
السردية: القالب الذي لا تراه
كل خبر يُقدَّم لك داخل سردية ضمنية.
لا تبدأ من السؤال "ما الذي حدث؟"، بل من افتراض مسبق: من هو "الخير" ومن هو "الشر"، من هو "الفاعل" ومن هو "الضحية".
الإعلام يُسقِط عليك هذه الأدوار دون تصريح، فيجعلك تستهلك الحدث بعيون الآخرين.
مثال:
حين يُقدَّم الفلسطيني كمخرّب، والإسرائيلي كمدني مضطهد، فإنك تشاهد صورًا حقيقية، لكنها مربوطة بسردية زائفة.
الكذبة الذكية: الحقيقة المبتورة
الإعلام لا يقول "هذا لم يحدث"، بل يقول:
"هذا فقط ما حدث"، ويتجاهل ما لا يخدم السردية.
يُخبرك بمقتل شخص في عملية ما، لكنه لا يذكر القصف الذي سبقه، ولا الحصار، ولا عشرات الضحايا الذين سقطوا بصمت.
هذه حقيقة مُنتقاة بعناية، لا لتُظهِر ما جرى، بل لتُخفي ما لا يُراد أن يُرى.
التكرار يصنع الحقيقة
ليست المشكلة فقط في الخبر، بل في الزخم.
الحدث يُكرَّر بصيغة معينة، حتى يتحول إلى "إجماع"، وحينها يشعر القارئ بأن شَكَّه في الرواية الرسمية هو خيانة للعقل الجمعي.
تكرار المصطلحات يصنع شعورًا كاذبًا بأن ما يُقال هو الحقيقة… لأنه يُقال كثيرًا.
هكذا يتم تطبيع الرواية، لا إقناع الناس بها.
سلطة التسمية
أخطر أدوات التضليل هي اللغة نفسها.
حين يُسمّى القاتل "قوات حفظ النظام"، يُمحى الفعل الأصلي من الوعي.
حين يُسمّى الاجتياح "عملية عسكرية محدودة"، يُخفى الاحتلال وراء التكنوقراط.
وحين يُسمّى التواطؤ السياسي "توازنًا في العلاقات"، يصبح النفاق حكمة.
الأسماء ليست أوصافًا، بل أدوات هيمنة.
تغييب السياق
الحدث لا يُفهم بمعزل عن تاريخه.
لكن الإعلام يحوّل كل شيء إلى لحظة منزوعة من جذورها، فيفصل الجريمة عن مقدماتها، والحرب عن تراكماتها، والانتفاضة عن قمعها.
وهنا تصبح كل مقاومة إرهابًا، وكل انفجار جنونًا، وكل احتجاج أزمة عابرة بلا جذور.
التضليل بالصمت
أحيانًا، لا يقول الإعلام شيئًا.
يصمت عن حدثٍ ما، أو يدفنه في الزاوية السفلية للصفحة.
وهذا تضليل خبيث: لأن ما لا يُقال يختفي من وعي الجمهور، وكأن شيئًا لم يحدث.
الخلاصة: كيف تُبنى الرواية؟
ليس بالكذب، بل بـ:
- ترتيب الحقيقة
- اختيار التوقيت
- توجيه الانتباه
- صبغ اللغة
- حذف السياق
- تجويف المفاهيم
هذه الأدوات تصنع "الواقع الرسمي"، الذي يبدو موضوعيًا… لكنه مبرمج على مقاس أصحاب السلطة.