من يختار ما نعرفه؟
التحكم في أجندة الإدراك
من يظن أن التضليل الإعلامي يقوم على اختلاق الأكاذيب، لم يفهم بعد الآلية الأخطر:
أن تتحكم لا في ما نعتقده، بل في ما ننتبه إليه أصلًا.
هذه هي السلطة الخفية التي لا يُدركها المتلقي: أن يُصاغ وعيه من خلال ما يُعرَض له، وما يُخفى عنه، دون أن يشعر أنه تم استبعاده من المعادلة.
ما لا يُقال أخطر مما يُقال
في عالم يتدفق فيه الحدث كل ثانية، لا يمكن أن يُغطّي الإعلام كل شيء.
لكنه لا يختار "بعشوائية".
بل هناك نظام داخلي يُسمّى في دراسات الإعلام:
"أجندة التغطية الإعلامية"
وهي ما تقرره وسائل الإعلام بوصفه "هامًا"، وبالتالي يُسلَّط عليه الضوء، فيما تُقصى أحداث أخرى وكأنها لم تكن.
وهكذا يتم توجيه انتباه الجمهور إلى مسارات محددة، ويتم إهمال مسارات أخرى، مهما كانت جوهرية.
التحكم في الإدراك = التحكم في الوعي
حين لا تُسلَّط الأضواء على أزمة سياسية كبرى، أو مجزرة بحق جماعة مهمّشة، أو انقلاب اقتصادي خطير، فإن القضية لا تختفي من الوجود… لكنها تُقصى من الإدراك الجماهيري.
الإدراك الجمعي لا يُبنى فقط بما يُقال، بل بما يُسكَت عنه.
وهنا لا يعود السؤال: "هل الإعلام صادق؟"
بل السؤال الأخطر:
"لماذا لم يُقال هذا؟ ومن قرر أنه غير مهم؟"
أمثلة حيّة: ازدواج المعايير الإعلامية
- يتم تغطية حادث طعن فردي في أوروبا باعتباره "تهديدًا عالميًا"، بينما يُقتَل العشرات يوميًا في فلسطين أو السودان دون تغطية تُذكر.
- تُخصَّص ساعات للتغطية الحية عند انهيار بورصة نيويورك، بينما لا تُعرض ولو دقيقة عن ملايين الفقراء في مدن عربية نُهبت أمام الكاميرات.
الإعلام لا يُخفي… بل يُشوّش
الخطورة اليوم ليست في الرقابة الصلبة، بل في الإغراق في التفاصيل.
يتم إشغال الجمهور بأخبار من كل الاتجاهات، فيبدو أن كل شيء مهم… فلا يعود شيء مهمًا.
وهنا تتم السيطرة بطريقة ناعمة:
أنت حرّ في أن تقرأ ما تشاء، لكنك لا تدري ما الذي لم يُعرَض عليك أصلًا.
الإلحاح مقابل الإقصاء
لاحظ دائمًا:
- ما هي القضايا التي يتم الحديث عنها بإلحاح؟
- ما هي القضايا التي غابت فجأة دون تفسير؟
- ما الذي يُقدَّم في الصفحات الأولى، وما يُدفن في الهامش؟
هذا هو التحكم في الوعي الجمعي عبر أجندة الإدراك.
هو لا يُجبِرك على رأي، لكنه يصنع لك الواقع كما يريد.
لا حياد في اختيار الموضوعات
يُقال إن الصحافة تنقل ما يهم الناس.
لكن الواقع أنها تُحدّد مسبقًا ما ينبغي أن يهتم به الناس.
فالسلطة الحقيقية ليست في "كيف يتم التغطية"، بل في "ماذا يُغطّى؟" و"ماذا يُغفل؟".