
ما هو الخطاب؟
ولماذا هو أخطر من الكذب؟
عندما نسمع كلمة "كذب"، نتخيل تزويرًا للوقائع، أو قولًا غير مطابق للحقيقة.
لكن هناك ما هو أخطر من الكذب:
أن تُقال الحقيقة جزئيًا، في سياق يصنع لها معنًى مغايرًا تمامًا.
أن تُستخدم اللغة لا لنقل الواقع… بل لإعادة تشكيله.
هذا هو الخطاب.
ولفهم كيف يُصنع الوعي، لا بد من فهم كيف يُصاغ الخطاب.
الخطاب: ليس ما يُقال… بل كيف يُقال
الخطاب ليس مجرد كلمات، بل هو:
- من يتكلم؟
- من يُسمح له بالكلام؟
- ما المفردات المستخدمة؟
- ما الإيحاءات، الترتيب، الصياغة؟
- وأهم من ذلك: من لا يظهر؟ وما لا يُقال؟
إنه بنية شاملة تُنتج المعنى وتوجّهه، وليس فقط محتوى لفظي سطحي.
الخطاب يصنع الواقع لا يصفه
حين تصف دولةٌ احتلالها بأنه "عملية أمنية"، فهي لم تكذب بالمعنى الحرفي.
لكنها استخدمت خطابًا يُعيد تعريف الفعل.
الدم يصبح استقرارًا، والقمع يصبح نظامًا، والضحية تتحوّل إلى مشتبهٍ فيه.
الكارثة هنا ليست في الكذب، بل في تحريف المعنى.
الخطاب يخترق اللاوعي
ما يُسمى بـ"الحياد" في الإعلام، كثيرًا ما يكون خطابًا موجّهًا.
فحين يُوصف الشهيد بـ"القتيل"، والمجزرة بـ"اشتباك"، والحرب بـ"النزاع"،
فإن اللاوعي الجماعي يتشرّب دلالات مشوّهة، دون مقاومة تُذكر.
الكلمات تمضي، لكن آثارها تستقر في الذاكرة والرؤية.
الخطاب يحدّد الممكن والممنوع
في المجتمعات، لا تُحكم الأجساد فقط… بل تُضبط اللغة:
- هناك كلمات ممنوعة من التداول
- وهناك مفاهيم يُعاد تأطيرها لتُصبح شرعية أو محرمة
- وهناك حدود لا يُسمح بتجاوزها في النقاش العام
وهذا ما سمّاه ميشيل فوكو: سلطة الخطاب.
حيث يصبح ما يُقال – وما لا يُقال – أداة سلطة لا تقل خطرًا عن السلاح.
الخطاب ليس بريئًا… ولو بدا كذلك
حتى أبسط الجمل اليومية قد تحمل في طيّاتها تصورًا ما للعالم.
فعبارة مثل "العرب لا يتفقون" أو "المرأة لا تصلح للقيادة"
ليست توصيفًا بريئًا… بل إنتاجًا لمعنى مستبطن بهيمنة أيديولوجية.
هل يمكننا تحصين وعينا؟
الخطوة الأولى لفك أسر العقول ليست رفض الإعلام،
بل تفكيك الخطاب الكامن فيه.
فكل كلمة تُقال، لا تُؤخذ على ظاهرها، بل تُسأل:
- لماذا قيلت هكذا؟
- ما الذي تغيّب؟
- ومن المستفيد من هذه الصياغة؟
المعركة ليست بين صدق وكذب… بل بين خطابات تتنازع على تشكيل وعيك.