
من يصوغ هويتنا؟ الدولة، السوق، أم اللغة؟
في صراع تحديد الهوية، لا تكفي الأسئلة عن "من نحن؟" بل يجب التعمق في "من يملك سلطة صياغة هويتنا؟" بين الفاعلين الكبار الذين يتحكمون في مفاتيح المعنى، يتوزع المشهد بين الدولة، السوق، واللغة، كل منهم يلعب دورًا مركزيًا في إعادة تشكيل الذات الجمعية.
الدولة: الساطرة على الإطار الرسمي
الدولة لا تكتفي بالحكم والسياسة فقط، بل تسعى لصوغ هوية "رسمية" تُضمَن ولاء المواطنين، وتُبرر وجود النظام. عبر المناهج التعليمية، الرموز الوطنية، الاحتفالات، والقوانين، تعيد الدولة بناء سرديات تدمج الأفراد في كيان موحد، لكنها كثيرًا ما تضع هوية واحدة تُهمش التنوع، وتُخفي التعدد.
هذا الصوغ الرسمي للهوية، رغم أهميته في بناء الاستقرار، يحمل خطرًا كبيرًا: أن يصبح القالب صارمًا، غير قابل للتغيير، معادٍ للاختلاف، فتصبح الهوية أداة قمع بدلاً من تمكين.
السوق: صانع هوية الاستهلاك
في العولمة الرأسمالية، للسوق الدور الأكبر في تشكيل الهوية الحديثة. من خلال الإعلان، الماركات، الموضة، وحتى المحتوى الإعلامي، يُباع "نمط حياة" محدد، يُشترى ويتبنى.
لكن الهوية التي يصوغها السوق ليست نابعة من عمق ثقافي، بل من حاجة مستمرة للتجديد والبيع، مما يجعلها سطحية، متغيرة، ومتقلبة. السوق يصنع نسخًا متعددة من الهوية، لكنها نسخ فارغة، تُستهلك ولا تُعاش.
اللغة: بوتقة الذات والتعبير
اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي مرآة الفكر، ووعاء الذاكرة، وباب الهوية. من خلالها يُعبّر الإنسان عن كيانه، وتُصاغ رواياته. فقدان اللغة، أو تهميشها، يعني فقدان القدرة على صياغة الذات والتاريخ.
في عالمنا العربي، اللغة العربية تواجه تحديات كبيرة: من التهميش في بعض المجالات، إلى الاختلاط باللغات الأجنبية، إلى التبسيط والتهجين الذي يُضعف من غناها التعبيري. وكل هذا يؤثر على قدرة المجتمعات على بناء هوية متماسكة وقوية.
الصراع والتداخل بين الفاعلين
الدولة، السوق، واللغة ليست كيانات مستقلة، بل تتداخل وتتقاطع. أحيانًا تدعم الدولة السوق في ترويج نماذج معينة، وأحيانًا تُستخدم اللغة كأداة رسمية لتوحيد الهوية، لكنها تُهمش في الواقع الثقافي.
هذا التداخل يولد صراعات على السلطة الرمزية، حيث لا يتوقف الصراع على الميدان السياسي فقط، بل يمتد إلى الميادين الرمزية واللغوية والثقافية.
كيف نستعيد حقنا في صياغة الهوية؟
لا يكفي الوعي بالمصادر الخارجية لتشكيل الهوية، بل يجب بناء فضاءات حرّة يستطيع فيها الفرد والجماعة التعبير، النقد، والتجديد.
- إعادة الاعتبار للغة، وتعزيزها في الحياة اليومية والتعليم والثقافة.
- مقاومة احتكار الدولة لصياغة الهوية عبر تنويع الخطابات وتقبل الاختلاف.
- مواجهة السوق الاستهلاكي بهويات متجذرة، لا مستوردة.
خلاصة
هوية الإنسان ليست هدية من أحد، بل حق عليه أن ينتزعه بنفسه في مواجهة كل من يريد أن يصوغها له وفق مصالحه. هوية أصيلة لا تعني الانغلاق، بل تعني التماسك والمرونة، معنى ينبع من داخل الذات، وليس من أجندات خارجية.