مصطلحات مضللة: التحريض: هل هو وصف للمضمون، أم أداة لقمعه؟

في معارك السردية، قد لا يكون الرصاص هو السلاح الأخطر، بل الكلمة. ولهذا، ترفع الأنظمة القمعية والدول الاستعمارية راية "مكافحة التحريض" كلما شعرت أن الكلمة الحرة تهدّد بنيانها الزائف. لكن السؤال الذي لا يُطرح: من يُحدّد ما هو تحريض؟ ومتى يصبح التحريض وصفًا موضوعيًا، ومتى يتحوّل إلى تهمة مُعلّبة لإسكات المضمون الصادق؟

المصطلح الهلامي: لا تعريف، بل نوايا

"التحريض" مصطلح قانوني في الأصل، يُفترض أن يُستخدم لوصف الخطاب الذي يدفع بشكل مباشر ومقصود نحو ارتكاب فعل عنيف. لكن في الواقع السياسي والإعلامي، تم تفريغه من معناه الدقيق، وتحويله إلى أداة رقابة شاملة على أي محتوى لا يروق للسلطة أو للغرب.

  • إن وصفت مجزرة بأنها مجزرة… قد تُتّهم بالتحريض.
  • إن نشرت صور ضحايا العدوان… فأنت تُغذّي الكراهية.
  • إن تحدّثت عن حق مقاومة الاحتلال… فأنت تُحرّض على العنف.

لا أحد يُطالبك بالتحريض المباشر. يكفي أن تُثير الغضب الأخلاقي، أو تُحَرّك الضمير، حتى تُوصَم.

تهمة بلا معيار... لكنها نافذة المفعول

مَن يستخدم "التحريض" كتهمة، لا يبحث عن الدقة، بل عن الردع. لأن الهدف ليس إثبات الجرم، بل إرهاب الخطاب، ودفع المنصّات والمفكرين والكتّاب إلى ممارسة الرقابة الذاتية.

ولهذا:

  • تُحذف منشورات فيسبوك لأنها "تحرّض"، بينما تُبقى منشورات التحريض الصهيوني قائمة.
  • تُعتقل صحفية لأنها وصفت العدوان بـ"الوحشي"، وتُترك قنوات تُبرّر القصف تعيش بحرية.
  • يُسكت خطيب لأنه ندّد بالاحتلال، ويُمدَح آخر لأنه "يدعو للسلام"، ولو كان صامتًا عن المجازر.

حين يُجرَّم الضمير ويُكافأ الصمت

التحريض الحقيقي لا يكمن في النصوص الصادقة، بل في خطاب التبرير. في البيانات التي تمحو الضحايا، وتُلبس القتلة ثوب الدفاع. في إعلام يجعل من الجلاد حاميًا، ويطالب الضحية بأن تُدين حزنها قبل أن تُدين قاتلها.

لقد انقلب المفهوم، فصار من يُجاهر بالحقيقة متهمًا، ومن يُخفيها معتدلًا. وكأن وظيفة الإعلام والمثقف هي تعقيم المأساة من صراخها، وتقديمها باردة لا تُقلق الضمير العالمي.

تفكيك التضليل: الحقيقة لا تُحرّض… بل تُفضح

الحقيقة لا تحرّض، بل تكشف. وإذا كانت الحقيقة تُزعج القاتل، فهذا ليس ذنب القائل، بل دليل على فظاعة الواقع. إن تجريم الخطاب المقاوم تحت عنوان "التحريض" هو جزء من هندسة الوعي العالمي، حيث يُعاد تعريف الخير والشر بناءً على من يملك السلطة لا المبدأ.

علينا أن نُعيد للمفاهيم معناها، فلا نُساوي بين الكلمة الجارحة والجريمة الفعلية، ولا بين الغضب النبيل والتحريض العبثي.

سلسلة: مصطلحات مضللة شائعة

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.