
في فضاء الإعلام والسياسة، أصبح مصطلحا "التشدد الديني" و"الإسلام المعتدل" من أبرز أدوات التصنيف والوصم التي تُستخدم لتشكيل وعي الجماهير وتوجيهه. لكن خلف هذا التصنيف السطحي تختبئ آليات تضليل تهدف إلى تحجيم الدين الإسلامي، تفتيت وحدته، وتبرير سياسات الاستبداد والهيمنة.
التشدد الديني: مصطلح يطير كالرصاص بلا تعريف دقيق
مصطلح "التشدد الديني" فضفاض ومرن، يُستخدم بلا حدود واضحة أو تعريف منهجي، ليشمل كل تعبير ديني لا يتوافق مع المعايير الغربية أو السياسات الرسمية، حتى وإن كان يعبر عن ثوابت دينية أو ممارسات روحية أصيلة.
يُطلق هذا المصطلح على كل من:
- يرفض الهيمنة الثقافية والسياسية الغربية.
- يتمسك بثوابت الدين أو بممارسات روحية تقليدية.
- يطالب بالحقوق الدينية والسياسية في إطار إيمانه.
- يتحدث عن حقوق الإنسان والكرامة ضمن إطار ديني.
- يتبنى مواقف مقاومة دينية أو سياسية، حتى السلمية منها.
ويُوظف لتشويه حركات المقاومة، وصبغها بالعنف والإرهاب، كما يُهمش الأصوات الإسلامية المستقلة، متهمًا إياها بالتحريض والتطرف.
الإسلام المعتدل: عنوان لمن يوافق، لا لمن يؤمن
في المقابل، يُروّج لـ"الإسلام المعتدل" كخيار شرعي ومقبول، لكنه في الحقيقة نموذج مُعاد تشكيله ليخدم مصالح الغرب ويُخضع الدين لمعايير السياسة الدولية.
هذا النموذج يُصور كإسلام:
- يُجامل الغرب، ويتجنب تحدي مصالح القوى الكبرى.
- يرضى بالهيمنة الثقافية والسياسية الخارجية.
- يقبل تحجيم الدور الديني في السياسة والمجتمع.
ويُستخدم المصطلح:
- لتبرير دعم أنظمة ديكتاتورية تزعم تمثيله، بينما تقمع الأصوات الدينية المستقلة.
- لتصنيف كل التيارات الإسلامية الأصلية، حتى السلمية منها، كمتشددة أو إرهابية بمجرد رفضها لهذا النموذج المشروط.
أمثلة تاريخية ومعاصرة توضّح عمق التضليل
- حركة الإخوان المسلمين في مصر: وُصفت مرارًا بالتشدد، رغم تبنيها لأساليب سياسية وديمقراطية، وتم تكريس وصمها في الإعلام لتبرير قمعها محليًا ودوليًا.
- النظام السعودي: يروّج لنفسه كراعٍ لـ"الإسلام المعتدل"، بينما يُستخدم لدعم السياسات الغربية، وقمع التيارات الدينية المختلفة داخل المملكة وخارجها.
- الجماعات الجهادية: استُخدمت صورها وجرائمها لتعميم وصمة التشدد على جميع التيارات الإسلامية، مع تجاهل السياقات المعقدة لنشأتها، بما في ذلك التدخلات الغربية، والفقر، والاحتلال، والاستبداد السياسي.
أثر التضليل: تقسيم المسلمين وإضعاف وحدتهم
هذا التصنيف الثنائي المضلل (إما متشدد أو معتدل) يعمّق الانقسامات بين المسلمين، ويضعهم في مواجهات اصطناعية، ويُسهّل على القوى الخارجية استثمار هذه التفرقة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.
وفي ظل هذا التضليل:
- يُشوّه فهم الدين.
- يُمنع النقاش الحر حول الهوية الإسلامية.
- تُبرر السياسات الاستعمارية والاستبدادية بحجة "مكافحة التشدد" أو "دعم الاعتدال".
تفكيك التضليل: الدين أوسع من تصنيفات سياسية ضيقة
الإسلام كدين يمتلك طيفًا واسعًا من الاجتهادات والمدارس والمواقف. تقليصه إلى نموذجين سياسيين جاهزين هو خديعة تهدف إلى التحكم في الشعوب، وتحجيم الحركات التي تطالب بالاستقلال السياسي والثقافي.
الحل يبدأ بـ:
- الاعتراف بحرية العقيدة والتعبير داخل الإطار الديني.
- رفض الهيمنة الخارجية التي تعيد تشكيل الدين لخدمة أجنداتها.
- تمكين المجتمعات الإسلامية من صياغة هويتها الإيمانية والسياسية بحرية، دون وصاية أو تصنيف.