
في زمنٍ باتت فيه الآلة تتكلم باسم "العقل"، وتُنتج المحتوى بدل الإنسان، يُطرح سؤال جوهري: من يتحكم في هذه الآلة؟ وعند الحديث عن جرائم الحرب في فلسطين، يظهر الانحياز بوقاحة تحت ستار "الحياد"، خاصة في نماذج الذكاء الاصطناعي الغربية، التي تمتنع عن الجزم بارتكاب إسرائيل جرائم ضد الفلسطينيين، رغم وفرة الأدلة وشهادات المنظمات الحقوقية الدولية.
فهل هذه نماذج "محايدة"؟ أم أن ما يُقدَّم بوصفه حيادًا، ليس إلا شكلًا جديدًا من الرقابة الناعمة والتواطؤ الخفي؟
1. الحياد كقناع للانحياز
تتبنّى النماذج سياسة خطابية تُروّج لما يُسمى "الموضوعية"، لكنها تُفرّغ الحقيقة من معناها حين تُساوي بين الجلاد والضحية. فعند توجيه سؤال مباشر عن المجازر في غزة، تردّ النموذجات بعبارات مثل:
"يتبادل الطرفان الاتهامات"،
"ثمة تقارير متضاربة"،
"الوضع معقد وله جذور تاريخية"...
هذه العبارات لا تعكس الواقع بل تُضلله، وتُغطي على جرائم موثقة بالصوت والصورة. إذ كيف يمكن الحديث عن "تضارب" حين يُقصف أطفال نائمون تحت الأنقاض، وتُدمر مستشفيات بالكامل على رؤوس مرضاها؟
2. الرقابة المُبرمجة: خوارزميات الصمت
النماذج اللغوية ليست محايدة بطبيعتها. بل يتم تدريبها داخل بيئة موجهة أيديولوجيًا، تخضع لما يُسمى بـ"طبقات الأمان" (Safety Layers).
وهذه الطبقات لا تُصمم لحماية المستخدم فقط، بل لحماية سرديات القوة السياسية الغربية. لذلك، تم تضمين قيود تمنع النموذج من استخدام تعبيرات مثل:
"إسرائيل ترتكب إبادة جماعية"،
"قصف المدنيين بشكل ممنهج"،
"استهداف الأطفال بالأسلحة المتقدمة".
وإن سُئل النموذج عن هذه الوقائع، فإنه يختبئ خلف صياغات مراوغة مثل:
"لا يمكن تأكيد ذلك بشكل مستقل"، أو
"بحسب بعض المصادر غير الحكومية"...
3. تهمة "معاداة السامية" كسلاح رقابي
أحد أبرز الأسباب التي تمنع Gemini من إدانة إسرائيل صراحة هو الخوف من الانزلاق إلى ما يُصنّف غربيًا تحت "معاداة السامية". فالنظام السياسي الغربي اختزل "السامية" في إسرائيل، وجعل من أي انتقاد لسلوكها السياسي أو العسكري، بابًا مفتوحًا للاتهام الأخلاقي.
وبما أن Google شركة أمريكية تخضع لضغوط اللوبيات الصهيونية، فإنها تفضّل أن تُخرس نموذجها على أن تُخاطر بمواجهة حملة تشهير.
4. التلاعب بالمصادر: من يملك الحقيقة؟
حتى حين تُقدَّم بعض النماذج للذكاء الاصطناعي تقارير حقوقية دامغة من منظمات مثل أمنستي أو هيومن رايتس ووتش، فإنه يُعاملها كـ"آراء"، ويُخفف من لهجتها. بينما يعتمد على مصادر إسرائيلية رسمية بوصفها موثوقة ومؤسسية.
بهذا الأسلوب، يُعاد إنتاج نظام معرفي منحاز يُروّج لسردية القوة، ويشكك دومًا في رواية الضحية، وكأنها متهمة حتى تثبت براءتها.
5. النتائج: صناعة الوعي الزائف
ما يحدث هنا ليس مجرد تقصير تقني، بل هندسة وعي ممنهجة. فحين تُستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي في المدارس، ووسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث، وهي تمتنع عن تسمية الجرائم باسمها، فإنها تُنتج أجيالًا ترى العدوان مجرد "نزاع"، والإبادة مجرد "أضرار جانبية"، والاستعمار "حقًا تاريخيًا".
هكذا يُختزل التاريخ، وتُطمس الحقيقة، ويُشرعن الاحتلال بلغة التكنولوجيا.
الخاتمة: هل يمكن الوثوق بالحياد المصنوع؟
لم تعد المعركة فقط على الأرض، بل أيضًا في الخوارزميات. والنموذج اللغوي الذي لا يستطيع قول "الطفل قُصف عمدًا"، لا يُمثل حيادًا، بل شريكًا في الجريمة بالصمت.
الذكاء الاصطناعي الذي يخاف من قول الحقيقة حين تتعارض مع مصالح الأقوياء، ليس أداة معرفة، بل أداة تبرير. وحين تصبح التكنولوجيا بوقًا للقوة، فإن معركة الوعي تصبح واجبًا لا ترفًا.